كان لافتاً ان الاتفاق على تكليف النائب سعد الحريري تشكيل الحكومة الجديدة، تزامن مع بعض الاجواء التفاؤلية السياسية والمالية، والابرز في هذا المجال، كان غياب اي منافس للحريري في الاستشارات اذ كان الخيار اما تسميته او لا وهو ما انطبق حتى على اللقاء التشاوري، دون الاعلان عن اي اسم آخر ولو بصوت واحد، وهو ما لم يحصل خلال الفترتين بالمرحلتين السابقتين اي مع حسان دياب ومصطفى اديب. اضافة الى ذلك، كان اعلان رئيس مجلس النواب نبيه بري فور التكليف، ومن قصر بعبدا، ان الاجواء ايجابية وطيبة بين تياري المستقبل والوطني الحر وفي البلاد بشكل عام، كما اعلن الحريري نفسه تفاؤله عبر اشاعة اجواء جيدة بعد لقائه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون لوضعه في اجواء الاستشارات النيابية غير الملزمة التي اجراها في مجلس النواب، فيما استمر تراجع سعر صرف الدولار في السوق السوداء.
هذا الجوّ خالف كل الغيوم التي سادت عشيّة التكليف، والتي اشارت الى انّ المسالة معقّدة وان التأليف بعيد وقد يتقمّص الحريري في هذا المجال شخصيّة تمام سلام قبل تشكيل حكومته. الا ان الامور انقلبت فجاة رأساً على عقب، وانقشعت الغيوم السياسية السوداء، فهل تستند الى واقع ام هي مجرد تقديرات؟ ان الطرفين اللذين شيّعا للتفاؤل هما الاكثر ارتباطاً بوجوب نجاح الحكومة، فبرّي هو الذي عمل منذ اكثر من سنة على اعادة الحريري الى السراي، ووضع في سبيل ذلك كل ما يملك من رصيد ونفوذ لدى الفرقاء اللبنانيين وبالاخص حزب الله، وحاول قدر الامكان تذليل الصعوبات الخارجية بالايحاء ان الحريري هو الوحيد القادر على اعادة الامور الى مجاريها في هذا الظرف.
اما رئيس الحكومة المكلّف، فبذل سياسة امتصاص الصدمات نزولاً عند نصيحة رئيس المجلس النيابي لمدة تقارب السنة، تنقّل خلالها بين ارضاء شارعه (عبر مواقف تصعيديّة عالية ضد افرقاء سياسيين)، وارضاء اللاعبين الدوليين (عبر انخراطه في المبادرة الفرنسيّة وتبناها على انها مخصصة له). وتقول مصادر متابعة لعمليّة التشكيل انه في سبيل ذلك، عمد الاثنان الى تأمين ارضية خصبة بالتنسيق مع حاكم مصرف لبنان الذي يلعب دوراً كبيراً في الشقّ المالي والتخفيف من تحليق الدولار في اسواق الصرف، وركبا بالتالي قطار "تدوير الزوايا" التي يتقنها بري الى درجة الاحتراف. وتضيف المصادر ان العقبة الابرز التي تعترض الحريري هي ارضاء التيار الوطني الحر، وقد تكفّل بري بالموضوع عبر تهيئة الاجواء لاعادة التواصل بين الطرفين اللذين ذهبا الى حدّ القطيعة، ويبدو ان الاتفاق يسير بثبات على قاعدة حفظ ماء الوجه لكل منهما في التأليف، فيما الخاسر الاكبر سيكون القوّات البنانية التي اختارت مرّة جديدة ارضاء شارعها ومؤيديها وتهيئة الارضيّة المناسبة لكسب اصوات الناس في الانتخابات المقبلة وفق سيناريو وضعته في سبيل عودتها بقوة الى مجلس النواب، بعد ان تقطعت السبل في ابصار اي قانون جديد النور في المدى المنظور.
اما على صعيد عون، فتعتبر المصادر انه سيسير في المسار الموضوع لانه بات يرغب اكثر من اي وقت مضى، في انقاذ عهده بعد سلسلة الويلات والنكبات التي توالت وهدّدت بتغيير صورة لبنان وبدخوله التاريخ من بابه الضيّق، وكي لا يقف في وجه "صديقه" الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي كان واضحاً في سعيه الى اصلاح الاوضاع بعد ان وضع اسمه شخصياً واسم فرنسا في المعادلة. وترى المصادر ان عون يعلم ان هذه التضحية لا بد منها وستضعف نفوذه لصالح تحالف بري-الحريري، ولكنه وصل الى الحافّة وليس بوارد الوقوع عنها، ويراهن على الانتخابات المقبلة وعلى ما سيتمكن من تحصيله في الفترة المقبلة للبقاء في المعادلة كرئيس فعلي وليس فقط كرئيس صوري بعد ان تأكد للجميع ان خروجه من قصر بعبدا لن يتمّ قبل انتهاء ولايته مهما كانت الاسباب والظروف.