لا يمكن لأحد أن يُنكر كآبة المشهد العربي اليوم بعد عشر سنوات من انطلاق الشرارة الأولى للحريق الذي أسمي زوراً بأنه «ربيع عربي» (إذ كان الأصح ان يسمّى حريقاً للعرب وربيعاً عبرياً لـ«إسرائيل» ولكامل ارباب المشروع الغربي الصهيوني).
فبعد عشرة أعوام من بدء إضرام النار في الجسد العربي يقف نتنياهو مباهياً انه أسقط عاصمة اللاءات الثلاث (مدينة الخرطوم السودانية التي اتخذ العرب فيها بعد هزيمة 1967 موقف عنفوان وكرامة قومية رفضوا فيه الاستسلام وقالوا: «لا اعتراف ولا مفاوضات ولا صلح مع إسرائيل»)، وانه أي نتنياهو شرع برسم خريطة استراتيجية جديدة في الشرق الأوسط تعكس الانقلاب لصالح «إسرائيل» ويغير الخريطة من خريطة «اسرائيل المعزولة» الى «إسرائيل التي تستعدّ للسيطرة على المنطقة برمّتها»، وها هي تقود قطار التطبيع مع الدول العربية التي تتقاطر اليها زاحفة رغبة بركوب قطار الاستسلام لـ «إسرائيل» والخيانة لفلسطين والأمة.
وبهذا تريد «إسرائيل» أن تثبت أنها انتصرت وأنها وحلفاءها في المشروع الغربي – الصهيوني شرعوا بحصاد ما زرعوا من نار ودمار في بلاد العرب بعد ان نجحوا في تدمير 4 دول عربية تدميراً شاملاً (ليبيا – اليمن – العراق – سورية) وتمكنوا من إفساد استقرار 4 دول أخرى (تونس والبحرين ولبنان والسودان) وأقحموا دولاً أخرى في عدوان وحروب تدميرية على العرب كما هو حال السعودية والإمارات المتحدة واشغلوا من بقي من العرب بنفسه ليكون بعيداً عن قضية العرب مكتفياً بمعالجة همومه ومشاكله وأوضاعه الداخلية. وهنا يطرح السؤال هل فعلاً انتصرت «إسرائيل» وحلفاؤها وحققت أهدافها؟ وهل فعلاً ضاعت ملاحم الصمود والتصدّي التي حفل بها تاريخ العرب في العقود الأخيرة؟ وهل فعلاً يُعبّر نتنياهو موضوعياً عن حقيقة الوضع؟
مَن ينظر الى الخسائر العربية المتراكمة والمتنوّعة من قتل وتشريد وانهيار، ومَن يقف محدّقاً بموكب المستسلمين اللاهثين للتطبيع مع العدو، ثم يتأمّل بسياسة العقوبات الإجرامية التي تفرضها أميركا بشكل إجرامي خارج أحكام القانون الدولي العام على محور المقاومة بكل مكوناته من إيران الى سورية وصولاً الى الكيانات المقاومة في لبنان وفلسطين، مَن ينظر الى كلّ هذا يكاد يقول ماذا بقي لنا وهل يمكننا ان نفعل شيئاً أم علينا ان نعترف بأنّ العدو انتصر وبدأ يجني ثمار انتصاره؟ وهنا الخشية من الوقوع في هذا الخطأ المميت.
فالحقيقة لا تتوقف على ما ذكر ومن يريدها عليه ان لا يتوقف فقط عند السلبيات في المشهد الظاهر، لأنّ المسرح لا يقتصر في مشتملاته على ما ذكرنا من صور سوداء قاتمة، بل فيه ما هو معاكس تماماً، نعم فيه ما إذا حدقنا النظر فيه وتحليله لحملنا على تصوّر آخر وجعلنا أمام صورة مناقضة، حيث يمكن التوقف عند ما يلي:
1 ـ القوة العسكرية المقاومة. إنّ امتلاك الرافضين لـ «إسرائيل» وجوداً ودوراً، امتلاكهم القوة العسكرية الكافية للصمود أولاً من شأنه أن يمنع العدو من فرض إرادته في الميدان. وهنا من المهم جداً التأكيد على انّ قوى العدوان فشلت في حربها الرئيسية التي شنتها على سورية وعبرها على محور المقاومة وقبلها في لبنان 2006. وصحيح أن سورية لا تزال تعاني من العدوان الذي شنّ عليها من وجوه شتى، لكن الصحيح أيضاً انّ الأهداف الرئيسية التي شاءها العدوان لم تتحقق فلم يسقط الدولة السورية ولم يسقط نظامها ولم يتمكّن حتى الآن من فرض تقسيمها ولا تزال سورية مكوّناً رئيسياً قوياً وفاعلاً في محور المقاومة محصّناً رافضاً كلّ مشاريع التنازل والاستسلام.
لقد صمدت سورية ومحور المقاومة رغم تبدّل وتقلب العدو في اعتماد استراتيجيات العدوان من استراتيجية القوة الصلبة الى الناعمة الى الإرهابية العمياء الى ما يمارس الآن من خلال استراتيجية القوة الخفية الذكية. ورغم التدابير الإجراميّة المسمّاة زوراً بأنها عقوبات تفرضها أميركا ضمن سياسة الضغوط القصوى على محور المقاومة فإنّ سورية وإيران ومعهما باقي قوى المحور مستمرّة في المواجهة والصمود متمسكة بقوة تخشاها «إسرائيل».
وهنا نعود وننوّه بأنّ «إسرائيل» التي قامت على عنصر القوة المعاكسة للحق، لا تستمر إلا بها وهي لا ترتاح ولا تطمئن بشكل فعلي إلا إذا شعرت بأنها مالكة تلك «القوة القادرة» على تحقيق أهدافها، أما اليوم فإنّ مكوّنات محور المقاومة ورغم ما نزل بها خلال العقد الأخير فإنها تمتلك القوة الكافية التي تفسد على «إسرائيل» حلمها وتقلب قوّتها من «قادرة» الى «قوة عاجزة» وتفرض عليها الانصياع لأحكام قاعدة توازن الردع الاستراتيجي الفاعل وما خوف «إسرائيل» من القوة الصاروخية المعادية التي تغطي كامل فلسطين المحتلة، وما رعبها من فكرة اختراق المقاومين لخطوط دفاعها الشمالية إلا دليل على ما نقول. وانّ تطبيعاً مع هذه أو تلك من دول عربية واهنة لن يمنح الأمن لـ «إسرائيل» في ظلّ قوة المقاومة ومعادلاتها.
2 ـ القوة السياسية. رغم ما قامت وتقوم به دول تحالف العدوان على المنطقة من ضغوط وابتزاز، فإنّ القوى العربية والإسلامية الرئيسية الرافضة للاستسلام تستمرّ متمسّكة بمواقفها بقوة رغم كلّ إغراء وتهديد، ولذلك خلافاً لما تريد «إسرائيل» ان تروّج له، فإن مَن كان يرفضها من الدول سراً وعلانية لا زال على رفضه، أما من كان يكذب ويناور ويرفضها علانية ويحالفها سراً فقد خضع الآن للضغوط وخلع قناع الحياء والخجل وارتضى الظهور بصورة الخيانة والذلّ، وهو في العمق لم يغيّر شيئاً في موازين القوى أو في رسم الخريطة الاستراتيجية في المنطقة وجلّ ما صنع هو أنه أزاح الضباب عن مشهد كان يعمل مخادعاً على حجبه. أما الدول الرافضة للعدو فهي تستمرّ على رفضها. ونتذكّر هنا ما حصل بعد توقيع اتفاقية «كامب دافيد»، حيث إنه رغم نقل الجامعة العربية مركزها من مصر الى تونس، لكن التي تصدّت للاتفاقية فعلياً هي 4 دول فقط انتظمت في جبهة الصمود والتصدي. واليوم قد لا نجد أكثر من أربع الى خمس دول عربية رافضة للتطبيع لكنها في الميزان الإسرائيلي هي الأساس في الموقف فـ «إسرائيل» تنظر الى مَن يفسد أمنها وأهدافها ولا تعبأ بمن يسير خلفها وبقرارها.
3 ـ القوة الشعبية والانفصام بين الأنظمة المستسلمة والشعوب الرافضة وحذر الأنظمة من إرادة الشعوب المعاكسة لخياراتها الاستسلامية، وأننا نرى بأنّ الشعوب العربية ليست جاهزة ولن تتقبّل فكرة التطبيع مع العدو الإسرائيلي المغتصب للأرض والحقوق وغير مستعدة للتعامل معه. وقد تجد من يخالف هذه القول لكننا نبني رأينا على إرادة الأكثرية التي يعوّل عليها. هذه الأكثرية التي ستبقى متمسكة بالحق الفلسطيني والعربي والإسلامي والمسيحي في فلسطين والقدس مهما ارتكبت أنظمتها من تخاذل وتنازل. وهذه الاكثرية ستفسد على «إسرائيل» سعيها بأن تكون قائدة للمنطقة آمنة مطمئنة فيها. انها أكثرية ستكون عضداً وظهيراً للمقاومة التي ستبقى في قوة تصاعدية تقضّ مضاجع «إسرائيل» التي تدرك انّ الأمن الذي تنشده لا يحققه لها توقيع حاكم عربي ارتمى بين أقدامها خلافاً لإرادة الشعب، في ظلّ وجود مقاومة ستبقى متمسكة مع تلك الأكثرية الشعبية باللاءات الثلاث التي تباهي «إسرائيل» الآن بأنها أسقطت عاصمتها.
4 ـ تردّي الوضع الداخلي في المكوّنات المعتدية ما يمنعها من الاستمرار في استثمار ما بدأت فيه عبر التطبيع. وانّ الحديث عن الترهّل والحروب الأهلية التي يخشى منها في أميركا و«إسرائيل» لم يعد سراً أو إشاعة بل بات أمرها يشكل خشية جدية كما يتداول الآن. حيث إنّ البلدين يمرّان بأسوأ الأزمات الداخلية التي عرفاها. أزمات تؤسّس لحروب أهلية وتصدّعات وتفكّك بات يحذّر منه الكثير من الخبراء المواكبين للأوضاع فيهما. خاصة في أميركا التي يحبس الناس أنفاسهم ينتظرون ماذا سيكون عليه الوضع في بلادهم بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة خاصة أنّ البعض يقول إنّ مسألة انفجار أميركا وتفكّكها بات مسألة وقت، فإن لم يكن غداً فسيكون بعد غد.
وفي الاستنتاج نقول إنّ على العدو أن يعرف، وهو يعرف، كما نعتقد، ان ليس له ان يطمئن ويزهو بانتصاراته المدعاة طالما انّ هناك بندقية يقبض على الزناد فيها مقاوم يرفضه وطالما ان هناك صوتاً رسمياً أو شعبياً يؤكد انّ «إسرائيل» كيان غير مشروع واجب الزوال، وطالما انّ هناك من يؤمن بأنّ «إسرائيل» حدث عارض طارئ مؤقت مصيره الزوال كما هو العهد والوعد، فمهلاً أيها المطبّعون فإنكم لن تربحوا شيئاً ولن تحجبوا الحق ولن تضيع فلسطين بفعل خيانتكم، بل سيكون الضياع ضياع عروشكم، كما ضاعت كرامتكم.