جرعات الامل المفرطة وحقن الايجابية المتلاحقة في ما خص الموضوع الحكومي، ليست من فراغ ولا من نسج الخيال، بل تستند الى واقع وحقيقة ملموسة. ولكن في المقابل، الحديث عن عقبات مهمة وامكان الوصول الى ولادة قيصرية وليست طبيعية، يستند ايضاً الى واقع وحقيقة لا يمكن الهروب منهما. اميركا دخلت مجدداً على الخط، هذا ما تجزم به مصادر مواكبة لعملية تشكيل الحكومة وقريبة من مواقع الاطراف المعنية بالتأليف في الجانب اللبناني، حيث تؤكد ان القطار الحكومي انطلق فعلاً وبالسرعة المطلوبة، ولكن الاميركيين جددوا وضع العقبات على السكّة بطريقة غير مباشرة، حيث اصروا في اليومين الماضيين على عدم مشاركة حزب الله في الحكومة، تحت ستار تمييزها عن الحكومات الاخرى وكسبها ثقة المجتمع الدولي. هذا الكلام الاميركي الصادر عن جهات رسمية في واشنطن، ليس بمفاجأة، انما توقيته والاصرار عليه هما المفاجأة بذاتها، وفق ما تقوله المصادر التي تشير الى ان محركات رئيس مجلس النواب نبيه بري والمدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم عادت الى العمل على هذا الخط.
الاميركيون ينطلقون من ثابتة مفادها انه لا بد من تمرير هذه الحكومة على الاقل دون تواجد الحزب فيها بطريقة مباشرة، لما يعود عليهم بالفائدة سياسياً ودبلوماسياً ويحرّرهم من قيود المساعدة الماديّة المباشرة والمساعدات المتوقعة من الدول العربيّة أيّ الخليجيّة تحديداً، وبذلك يكون الجميع قد نالوا مرادهم، فتدرّ الاموال الى لبنان بشكل سلس، ويكون الاميركيون قد اثبتوا بالفعل لا بالقول انهم قادرون على تغيير الامور فيالمنطقة كلها بما فيها لبنان وتحدي نفوذ اقوى قوة محلية فيه اي حزب الله. ووفق المصادر نفسها، فإن الاميركيين أوصلوا رسائل مفادها انهم لن يغيّروا من وضع الستاتيكو اللبناني الحالي، اي انهم لن يعرقلوا جهود حلحلة بعض الامور الحياتية والماليّة والاقتصاديّة الملحّة (التي تبرز بشكل يومي)، لانها تبعد شبح الحرب عن لبنان، ولكنهم في المقابل لن يقبلوا بحلّ طويل الأمد ما لم يقترن بشرط تقليص نفوذ الحزب، حتى ولو تم تشكيل حكومة عكس رغبتهم ونيلها ثقة المجلس، لانها ستكون بالنسبة اليهم كالحكومة الحالية المستقيلة.
وفي ما خص التوفيق بين هذا التصعيد الاميركي على الخط الحكومي والليونة المتبعة على خط ترسيم الحدود مع اسرائيل، تردّ المصادر بالتشديد على انه وفق وجهة النظر الاميركية، فإن المفاوضات الحدودية لا تفيد فقط الولايات المتحدة واسرائيل، فهناك فائدة اساسية للبنان سيجنيها حكماً في فترة لاحقة، وبالتالي لا يمكن "بيع" هذا الموقف لواشنطن والتوقّع منها الاكتفاء به، ولو انه يعتبر من المواقف المتقدمة. أمّا من وجهة النظر اللبنانية، فيمكن البناء على القرار اللبناني بالجلوس الى طاولة واحدة مع الاسرائيليين بوساطة اميركية ورعاية اممية، لزيادة نسبة نجاح دخول بري وابراهيم على الخطوالسعي الى "تليين" الموقف الاميركي المتشدد من حزب الله، لان نجاح الحريري متلازم مع وجود الحزب في الحكومة بطريقة مباشرة او غير مباشرة، وهما يرغبان في الاسراع بتشكيل الحكومة قبل الانتخابات الاميركية لتفادي الدخول في دوامة عميقة تتطلبها المدة التي سيستغرقها التعاطي الجديد مع لبنان اياً تكن هوية الفائز في هذه الانتخابات. وتعترف المصادر بأن مهمة الرجلين ليست بالسهلة وقد لا تتكلل بالنجاح، بدليل ابراز الاصرار الاميركي على تسجيل نقطة ضد حزب الله من خلال تصريحات وزير الخارجية الاميركي مايك بومبيو ضد الحزب في كل مناسبة، وما على المشككين سوى العودة الى كلامه في اليومين الماضيين والتأمل في ما قاله عن الحزب ونشاطاته وترحيبه بالخطوات المتخذة ضده.
واذ ترى المصادر ان الحزب وبري فوّتا على نفسيهما فرصة ذهبيّة من خلال اهمال عرض الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون الذي تقدّم به خلال زيارتيه الى لبنان في آب وايلول الفائتين بتحييد وضع الحزب تحت المجهر، فهي تدعو (أيّ المصادر) الى ترقّب ما ستسفر عنه تحركات رئيس مجلس النوّاب ومعه المدير العام للأمن العام وما اذا كانت ستحدث خرقاً في الموقف الاميركي ينعكس ايجاباً على التشكيل الحكومي ام لا، حيث سنضطر للعودة الى الحلقة المفرغة التي انطلقنا منها وهي الدخول في دوامة الانتخابات الرئاسية الاميركية.