يوم أطلق رئيس الحكومة المكلّف سعد الحريري ما وصفها بـ"المبادرة"، حين كان يخوض المفاوضات الحكوميّة بالنيابة أو الأصالة عن السفير مصطفى أديب، أوحى بأنّه "يتجرّع السّمّ"، بموافقته على منح حقيبة الماليّة لوزيرٍ من الطائفة الشيعية، خلافاً لمبدأ "المداورة".
اعتذر أديب، وكُلِّف الحريري، لتبدأ جولة جديدة من "جرعات السّمّ" المشابهة، إذ إنّ الرجل بات يطبّق اليوم "نقيض" ما كان ينادي به منذ استقالته الشهيرة، على وقع الانتفاضة الشعبية في تشرين الأول 2019، يوم أطلق "سلّة شروط" لا بدّ من تلبيتها حتى يوافق على العودة.
هكذا، "تنازل" الحريري عن دعوته للأحزاب إلى "التنحّي جانباً"، حيث باتت استشارتها أكثر من "مُحبَّذة"، ولو عن بُعْد، تماماً كما لعب على الكلام، باستبدال عبارة "الأخصائيين المستقلين"، بـ "الأخصائيين غير الحزبيّين"، وهي عبارة "مطّاطة" حمّالة أوجُه، كما يدرك الجميع.
لا تفسير لكلّ ذلك، سوى أنّ الحريري "مستعجل"، بل "مستقتلٌ" لتأليف حكومته، والعودة إلى السراي، وسط علامات استفهامٍ بالجملة عن دوافع هذا "التحوّل" في أداء الرجل، الذي كان حتى الأمس القريب "ينأى بنفسه"، تفادياً لتحميله مسؤولية "الانهيار" الواقع!.
أكل العنب أولاً!
من يراقب أداء الحريري منذ تكليفه تشكيل الحكومة يلاحظ فارقاً كبيراً عن أدائه قبل يومٍ واحدٍ من التسمية، يوم كان "يعاند" رفضاً لإجراء أيّ تواصل مع رئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، حتى لا يُصوَّر الأمر كأنّه "انكسارٌ" أو "تراجعٌ" له، في مكانٍ ما.
كلّ ذلك تغيّر بمجرّد "استدعاء" الحريري إلى قصر بعبدا، لإبلاغه نتيجة الاستشارات النيابية الملزمة، وتكليفه رسمياً بتشكيل الحكومة. في هذه اللحظة بالتحديد، انقلبت كلّ المعطيات في "ميزان" الحريري، حتى أنّ علاقته برئيس الجمهورية الذي وجّه عشيّة الاستشارات نداءً غير مسبوق للنواب، رفضاً لتسميته، باتت "نموذجيّة" بكلّ المعايير والاعتبارات.
ويذهب البعض أبعد من ذلك بالمقارنة بين "الشروط" التي كان يطرحها الحريري للعودة، وأدائه بعد العودة، حيث بات واضحاً أنّ طريقة تشكيل الحكومة تتمّ وفق "المعايير" نفسها التي شُكّلت على أساسها حكومة حسّان دياب، والتي لاقت من فريق الحريري نصيبها الوافر من "القدح والذم"، إن جاز التعبير، انطلاقاً من اتهامها برفض الإنصات إلى صوت الشعب الصارخ الذي شهدت عليه ساحات الاعتصام على مساحة الوطن.
لكن، إذا كان كلّ ما سبق صحيحاً، ولو حاول البعض "تلطيفه"، فإنّ ثمّة في محيط الحريري من يعيد أداءه المستجِدّ إلى "الواقعية السياسيّة" المطلوبة اليوم أكثر من أيّ وقتٍ مضى، خصوصاً أنّ الرجل يريد "أكل العنب" وليس "قتل الناطور"، علماً أنّ "مقتضيات" كلّ من العمليّتيْن تختلف رأساً على عقب عن الأخرى، وبعدما أيقن أنّ تشكيل حكومته وفق المعايير التي كان يطرحها، والتي قد تكون "مثالية" ومناسبة للجمهورية "الأفلاطونية"، لا تتلاءم مع الواقع اللبنانيّ، الآخذ في التفاقم أكثر فأكثر، يوماً بعد يوم.
"سباق مع الزمن"!
من هنا، يقول العارفون إنّ الحريري أدرك أنّ مهمّة تشكيل الحكومة، التي يصفها البعض بـ "الانتحارية" في ظلّ الظرف الحاليّ الذي تشهده البلاد، تتطلّب "تنازلاتٍ" من كلّ الأنواع، خصوصاً أنّ "هدر" الوقت بالمزيد من المهاترات والعُقَد المُجرَّبة لم يعد خياراً مُتاحاً للّبنانيّين، ولو أصرّ بعضهم على "المكابرة"، والتعامل مع تشكيل الحكومة وفق الطريقة التقليدية، وكأنّ لا انتفاضة حصلت، ولا انفجار وقع، ولا شيء يستوجب تغيير المقاربات.
لكن، ولأنّ السياسة اللبنانية لا تفترض "حسن النيّة" بأيّ شكلٍ من الأشكال، خصوصاً في صفوف "الشركاء" الذين تناوبوا على الحكم لسنواتٍ طويلة خلت، فإنّ ثمّة من يجزم بأنّ "واقعيّة" الحريري المستجدّة والمفاجئة لم تأتِ هي الأخرى من "العَدَم"، بل من إدراك الحريري أنّ وجوده خارج الحكم في هذه الفترة ليس في صالحه، بعدما راكم "الخيبات" و"الخسائر" على المستوى الشعبي، لدرجة بات شقيقه رجل الأعمال بهاء الحريري، الطامح لإقصائه والحلول بديلاً له، "يحاصره" بشكلٍ أو بآخر.
وإذا كان هناك من "يتوجّس" ايضاً من وجود الحريري في الحكم في زمن "التدقيق الجنائي" المنشود، وهو الذي "يجاهر" برفضه أيّ مسّ بمن يصطلح على تسميتهم بـ "رجالاته"، بعدما نجح، وهو خارج الحكم، في فرض "أجندته" في هذا الخصوص على حكومة حسّان دياب، فإنّ هناك من يرى أنّ الرجل يسعى أيضاً إلى الاستفادة من الواقع الدوليّ والإقليميّ الذي قد يكون مؤاتياً لعودته للحكم، من بوابة المبادرة الفرنسية المترنّحة، بعدما كان ذلك "متعذّراً" طيلة الفترة السابقة، بموجب "الفيتو" المرفوع في وجهه من جانب بعض المرجعيات الإقليمية.
لكنّ العارفين يقولون إنّ هذه النقطة بالتحديد تستوجب "الحذر الشديد" من جانب الحريري، علماً أنّ كلّ الوقائع والمعطيات تؤكد دخوله في "سباق مع الزمن" لتشكيل حكومته انطلاقاً من هذا الواقع، وثمّة من يذهب أبعد من ذلك بالقول إنّ "السباق" ليس سوى مع الانتخابات الأميركية، التي يريد رئيس الحكومة المكلّف "استغلال" الانشغال الأميركي بها لتشكيل حكومته بسرعةٍ "قياسيّة"، تفادياً لعودة الأمور إلى مربّعها الأول، في حال التأخّر، أو حصول أيّ "تشويش" كذلك الذي "جمّد" مهمّة مصطفى أديب، يوم قرّر الأميركيون فرض عقوبات على الوزيرين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس في عزّها، ما أدّى إلى "إطفاء" كلّ المحرّكات.
"جرعات سمّ"!
ثمّة من يقول، عن خبث ربما، إنّ الحريري لم يتناول "جرعة السّمّ" الشهيرة، بل منحها للسفير مصطفى أديب، يوم فرض عليه سلسلة "لاءات"، دفعته إلى "الاعتذار" في نهاية المطاف، بعدما أدرك أنّ "لا حول له ولا قوة"، وأنّ "الضغوط" عليه من كلّ حدبٍ وصوب.
ويذهب أصحاب هذا الرأي أبعد من ذلك، بملاحظة أنّ "اعتذار" أديب لم يعبّد الطريق لعودة الحريري فحسب، ولكن لعودته بصيغةٍ مناقضة لتلك التي يفرضها على "سلفه"، وبمرونةٍ قلّ نظيرها مع القوى والأحزاب السياسية، كانت من "المحظورات" قبل أسابيع قليلة.
لكن، بمُعزَل عن مدى دقّة مثل هذا الاستنتاج، فإنّ الأكيد أنّ الحريري "مستعجلٌ ومستقتلٌ" لتشكيل حكومته، وهو أصبح "جاهزاً" للمزيد من "جرعات السّمّ"، أو "التنازلات"، التي تتيح له تحقيق هذا الهدف، وبالسرعة المطلوبة.
وإذا كان مثل هذا الأداء يذكّر البعض بالتسوية الرئاسيّة التي استوجبها "استقتال" الحريري للعودة إلى الحكم قبل سنوات، فإنّ ثمّة من يتوجّس من التبعات والمفاعيل التي قد تترتّب على ذلك، خصوصاً إذا ما أتت مشابهة لتلك التي ترتّبت عن التسوية الشهيرة!.