مخطئ كثيرا من يعتقد أن تغييرا جوهريا سيطرأ على سياسة الولايات المتحدة الأميركية الخارجية، في حال فاز المرشح الديمقراطي جو بايدن، وخسر الرئيس الأميركي دونالد ترامب، لكنه مخطئ أيضا اذا ما اعتقد انه لن تكون هناك فوارق واختلافات في طريقة مقاربة الأزمات والتعامل مع الوقائع والمستجدّات الإقليمية والدولية انطلاقا من النتائج التي افضت إليها سياسة استخدام القوة العسكرية والارهاب بالوكالة والحصار الاقتصادي والمالي والعقوبات.. والتي لم تفض إلى تحقيق هدف واشنطن في تعويم مشروع هيمنتها على العالم، وإنما كشفت ان للقوة الأميركية حدودا، لا سيما عندما تضرب بعرض الحائط مصالح الدول الكبرى، الخصوم منها والحلفاء.. وعندما تواجه ارادة الشعوب المقاومة الرافضة للهيمنة الاستعمارية الأميركية على غرار سورية وإيران وفنزويلا الخ…
فما هو الثابت في سياسة الحزبين الجمهوري والديمقراطي؟..
وما هي نقاط الاختلاف بينهما؟.
أولا، على صعيد الثوابت في السياسة الخارجية، يجب لفت النظر الى أن الحزبين الديمقراطي والجمهوري لا يختلفان في سعي الولايات المتحدة الى:
1 – فرض الهيمنة الاستعمارية في العالم والتسيد والسيطرة والتحكم بالقرار الدولي، والعمل على نهب خيرات الدول والشعوب والتحكم بسياساتها بما يخدم مصالح كارتيلات الشركات الأميركية..
2 – دعم كيان العدو الصهيوني سياسيا واقتصاديا وماليا وعسكريا وتمكينه من السيطرة على المنطقة، والتحول إلى المركز الذي تدور في فلكه جميع دول المنطقة في إطار ما اطلق على تسميته مشروع الشرق الأوسط الجديد الذي تهيمن فيه «إسرائيل» وتشكل نقطة الارتكاز والجذب والاستقطاب في المنطقة الذي ترتبط عبره بالمركز الاستعماري الغربي..
ثانيا، اما على صعيد أوجه الاختلاف والتباين، فإن الحزبين يختلفان في الأساليب والتكتيكات لتحقيق أهداف السياسة الاستعمارية الأميركية، وحماية ودعم «إسرائيل» .. ويتمظهر هذا الخلاف في..
1 –طربقة مواجهة الأزمات الدولية، ففي الوقت الذي يجنح فيه الحزب الجمهوري إلى استخدام القوة العسكرية الأميركية الصلبة، وتوظيف كل أسلحة القوة الأخرى في خدمتها لفرض السيطرة على الدول التي ترفض الخضوع للهيمنة الأميركية.. ويرفض فيه الحزب الجمهوري أي حلول أو تسويات تكتيكية في سياق التكيف مع المتغيرات وموازين القوى، عندما تصل سياسة استخدام القوة إلى طريق مسدود.. فإن الحزب الديمقراطي يتبع سياسة براغماتية، فهو يفضل المزج بين استخدام القوة العسكرية الصلبة والقوة الناعمة، وعندما يجد أن هناك صعوبة في تحقيق الأهداف الأميركية الاستعمارية لا يتوانى عن الدخول في تسويات مؤقتة وعقد الصفقات التكتيكية.. للخروج من المأزق.
2 – الموقف من الحلول المطروحة للصراع العربي الصهيوني.. الحزب الجمهوري يدعم بدون تحفظ، السياسة الإسرائيلية في سعيها إلى فرض الحل الصهيوني للصراع والقائم على رفض حل الدولتين، والعمل لفرض قيام الدولة الصهيونية العنصرية على كامل أرض فلسطين التاريخية.. ما عدا طبعا قطاع غزة، ومنح الفلسطينيين إدارة ذاتية في مناطق تواجدهم في إطار السيادة الصهيونية المطلقة والعمل على فرض ذلك بالقوة وإجبار الحكومات العربية على الاستسلام لهذا الحل الصهيوني والاعتراف بوجود «إسرائيل» كدولة صهيونية عنصرية والقبول باندماجها في المنطقة..
اما الحزب الديمقراطي فيرى أن مصلحة «إسرائيل» تكمن في قبول حل الدولتين، لأنه هو السبيل لضمان أمن واستقرار الكيان الصهيوني وتكريس شرعية وجوده ودمج «إسرائيل» في المنطقة لتتحول إلى مشروع طبيعي قادر على العيش من دون الحاجة الدائمة للمساعدات الأمريكية الغربية، التي هي أشبه بالمصل الذي يعطى للمريض الذي لا يستطيع الاستغناء عنه إلا إذا شفي تماما من مرضه العضال..اما رفض حل الدولتين فإنه سوف يؤدي إلى استمرار الصراع وتحول «إسرائيل» إلى نظام شبيه بنظام الفصل والتمييز العنصري الذي كان قائما في جنوب أفريقيا قبل سقوطه.. لأن «إسرائيل» لا تستطيع أن تحكم الشعب الفلسطيني في وطنه وحرمانه من إعطائه حق إقامة دولة كاملة، والاعتراف بوجوده، ولاسيما أن السنوات القليلة المقبلة سوف يصبح عدد الفلسطينيين في فلسطين التاريخية أكثر من عدد الإسرائيليين.. وهو ما كان حذر منه الرئيس الصهيوني السابق شيمون بيريز ووصفه بالقنبلة الديمغرافية ورأى الحل يكمن بالانفصال عن الفلسطينيين..
3 – الموقف من الاتفاق النووي الإيراني.. الحزب الديمقراطي في عهد الرئيس باراك أوباما، عندما أدرك ان استخدام القوة لضرب إيران وتدمير مفاعلها النووي ومرتكزات قوتها، فيه مخاطر كبرى على المصالح والقواعد العسكرية الأميركية في المنطقة وعلى» اسرائيل»، وأن الحصار المفروض على إيران، منذ اربعين عاما، لم يفلح في إخضاع طهران، عمد أوباما إلى خوض مفاوضات شاقة مع إيران، وبمشاركة الدول الأوروبية وروسيا والصين، تم في نهايتها التوصل إلى اتفاق بشأن البرنامج النووي الإيراني يتضمن موافقة إيران على اجراءات تضمن ابقاء برنامجها للأغراض السلمية، مقابل رفع العقوبات الدولية المفروضة عليها بشكل تدريجي..
أما الحزب الجمهوري، فبعد فوز ترامب في الانتخابات السابقة وتسلمه السلطة، سارع إلى الخروج من الاتفاق النووي والعودة إلى سياسة تشديد الحصار على إيران في محاولة لاجبارها على الموافقة على تعديل الاتفاق بما يحقق أهداف «إسرائيل»، مما وجه ضربة موجة لمصداقية الولايات المتحدة بشأن التزامها في الاتفاقيات الدولية التي توقع عليها..وقد أدت هذه السياسة إلى اضعاف النفوذ الأميركي في مجلس الأمن وجعل أميركا في حالة من العزلة عندما عجزت عن كسب التأييد إلى جانب مشاريعها التي قدمتها لتجديد العقوبات ضد إيران ومنع رفع حظر التسلح المفروض عليها.. ولم تجد إدارة ترامب أحدا حتى من حلفاء امريكا الأوروبيين يصوت إلى جانبها.. وقد زاد من حنق الدول الغربية إزاء واشنطن اقدام ترامب على شمولها في الحرب التجارية التي شنها ضد معظم دول العالم، ما دفع هذه الدول بما فيها أوروبا إلى اتخاذ إجراءات مماثلة.. وظهر اعتراض الحزب الديمقراطي على هذه السياسة الخارجية عبر اتهام بايدن ل ترامب بأنه أضعف مكانة أميركا الدولية وأحدث خللا كبيرا في علاقات أميركا مع حلفائها وأدى إلى اضطراب في السياسة الأميركية..
من هنا فإن بايدن اذا ما فاز يعتزم العمل على تصحيح هذه الأضرار التي أصابت الولايات المتحدة على المستوى الدولي نتيجة سياسات ترامب.. وبالتالي احتمال ان تعود إدارة بايدن إلى الالتزام بالاتفاق النووي الذي وقع في عهد أوباما وقد يكون مع بعض التعديلات الشكلية التي لا تمس جوهر الاتفاق لتبرير وإيجاد المخرج لهذه العودة.. لكن هذا مرهون بموافقة طهران على هذا المخرج.. كما من المتوقع أن يعمد بايدن إلى إعادة الدفء إلى العلاقات الأميركية الاوروبية، والتعامل البراغماتي مع كل من الصين وروسيا، لأن الديمقراطيين يدركون جيدا أن العلاقات مع بكين وموسكو محكومة بالمصالح المتداخلة اقتصاديا مع الصين، والتوافق لإيجاد تسويات مع موسكو في ساحات الصراع والاشتباك، غير المباشر، في المنطقة والعالم، انطلاقا من توازن القوى الذي رست عليه.. طالما أن حسم هذا الصراع بالذهاب إلى حرب عالمية ليس فيه مصلحة لأحد، لأن الحرب ستكون مدمرة للجميع، ولن يكون فيها منتصر، بل الكل سيكون خاسرا لكون الجميع يملك الأسلحة النووية وغير من الأسلحة المدمرة..
أما في حال فاز ترامب بولاية ثانية فإن استمراره في سياسته الحالية لن تكون نتائجها أفضل بالنسبة للولايات المتحدة بل ستزيد من تدهور مكانة أمريكا الدولية، وتضعف أكثر من حضورها خصوصا أن العالم يتجه أكثر فأكثر نحو التعددية والاستغناء عن أمريكا على ضوء تقدم الصين وتصدرها المرتبة الأولى كأكبر اقتصاد عالمي وتراجع أمريكا إلى المرتبة الثانية حسب تقرير اخير لصندوق النقد الدولي، مما يعتبر اول إقرار من أهم مؤسسة مالية عالمية تملك فيها واشنطن قدرة توجيه سياساتها المالية.