لا شك في أنّ هناك «كلمة سر» خفية أدّت الى انقلاب الوضع من المواجهة والتصعيد الى الاحتواء والتعاون. فجأة تحرّك الملف الحكومي وانطلقت رحلة تشكيل الحكومة في سلاسة، وبعكس ضجيج المرحلة السابقة. لقد علّمتنا التجارب الماضية انّ قوة الدفع الايجابية تتحرك عادة بوَحي خارجي، هذا هو واقع الحال في الحياة السياسية اللبنانية، وما عَزّز هذا الانطباع جملة أحداث لا تجد تفسيراً داخلياً لها.
فالرئيس سعد الحريري انتقل من موقفه الذي كان قد أعلنه قبل أيام للصحافيين بأنه لن يترشح لرئاسة الحكومة، ولن يغطي أو يدعم أحداً غيره، الى إعلان ترشيحه وتمسّكه به بنحو مفاجئ وبلا مقدمات.
أمّا رئيس الجمهورية، والذي اشتهر بأسلوب المعاندة والمواجهة مهما كان الثمن، والذي كان زوّاره قد نقلوا عنه سابقاً قوله انّ الحريري لن يعود الى السرايا الحكومية في عهده، فقد أجرى استدارة كبيرة وباشَر تعاوناً إيجابياً ومَرناً مع الحريري.
هذا من دون أن ننسى كلام عون قبل يوم من بدء الاستشارات النيابية الملزمة، حين قال بما معناه إنه خسر معركة التكليف «ولكن انتظروني في مشاورات التأليف». وكذلك انعطَفَ رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل فجأة، فبعد خطابٍ عالي السقف ومواقف نارية في احتفال 13 تشرين، استدارَ فجأة وفتحَ باب التفاهم حول الحصص الوزارية مُتجاوزاً معادلة الحريري ـ باسيل معاً داخل الحكومة او خارجها، وواضعاً جانباً تغريدته الشهيرة «الطريق الصعب والمتعرّج والطويل لعودة الحريري». كذلك، رمى باسيل خلف ظهره استثناء وزارة المال من المداورة.
ولم تقتصر المرونة على باسيل فقط، بل شملت أيضاً وليد جنبلاط الذي كان قد خاض اشتباكاً عنيفاً مع الحريري، اضافة الى الرئيس نبيه بري. ولكن الأهمّ مرونة «حزب الله»، فلقد سمع منه الفرنسيون يوم تكليف الحريري أنه سيعمل على تسهيل مهمته الحكومية.
وعلى مسافة غير بعيدة انفَرطَ فجأة عقد «المُنتديات»، والتي كانت تشكل بوابة دخول بهاء الحريري الى اللعبة السياسية اللبنانية. والمفارقة أنّ انفراط عقدها حصل خلال ساعات معدودة، ما يطرح كثيراً من علامات الاستفهام، وما اذا كانت مرتبطة بإعادة تركيز الساحة اللبنانية وإبعادها عن التزاعات الاقليمية.
في الواقع لم يكن الدَفع الفرنسي هو وحده من فتح الطريق واسعاً أمام إعادة تدوير الزوايا وخَفض السقوف العالية للاطراف.
صحيح انّ باريس استمرت في مسعاها الضاغط سعياً وراء تذليل العقبات، لكنّ الثابت أنّ الضغط الذي كان حاصلاً مع المشاركة الشخصية للرئيس الفرنسي والزَخم الذي ترافَقَ مع بداية طرح المبادرة الفرنسية، كان يجب أن يُثمِرا، الأمر الذي لم يحصل، ما يعني انه يجب البحث عن «كلمة سر» إضافية.
وصحيح أيضاً انّ باريس أجرت تفاهماً مع موسكو حول الملف الحكومي اللبناني، لكنّ الواضح انّ المسؤولين الروس، والذين يهمّهم عودة الحريري الى رئاسة الحكومة، يدركون حدود تأثيرهم على اللعبة السياسية اللبنانية.
يبقى الموقف الاميركي، وهنا أساس «كلمة السر».
عند انطلاق المبادرة الفرنسية راجَ انطباعٌ لبناني انّ واشنطن تعارض سراً المسعى الفرنسي وهي تريد إجهاضه، وجرى بناء هذا الاستنتاج استناداً الى قرار العقوبات المدوّي، والذي طاوَلَ الوزيرين السابقين يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل. كذلك، تم الاستناد الى المواقف الاميركية المعلنة حول رفض ضَمّ «حزب الله» الى الحكومة.
في الواقع، لم تكن القراءة اللبنانية صحيحة الى حد بعيد. فالتحرك الفرنسي لم يكن بعيداً عن التنسيق مع الاميركيين. صحيح انّ واشنطن، الغارقة في فوضى انتخاباتها والمهتمة في شكل أساسي بملف ترسيم الحدود البحرية، لم تكن تُعارض سَعي فرنسا لإنتاج حكومة لبنانية تشكّل في الواقع مظلة ضرورية لمفاوضات ترسيم الحدود، لكن في الوقت نفسه لم تكن واشنطن متحمّسة للمساهمة في تأمين الدعم المطلوب للمبادرة الفرنسية. إلّا أنه ومع سقوط مبادرة ماكرون، وارتفاع مخاطر تفكّك الدولة اللبنانية وسط انهيار اقتصادي ومالي، آثرت الديبلوماسية الاميركية التدخّل تأميناً لولادة حكومة ستواكِب مفاوضات ترسيم الحدود وتؤمّن الشروط المُلحّة التي يطلبها صندوق النقد الدولي من لبنان. لذلك، صدر بيان عن السفارة الاميركية، وهو في الحقيقة بيان مَصدره وزارة الخارجية الاميركية، بعد زيارة ديفيد شينكر لقصر بعبدا. وأراد هذا البيان ان يُفصّل بوضوح بين الرضى الاميركي على مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، وبين ثبات الموقف السلبي جداً من الطبقة السياسية اللبنانية حول الفساد والملفات الداخلية.
وجاء اتصال وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو بالرئيس اللبناني لِيصبّ في الاتجاه نفسه، ومن ثم الرسالة الواضحة التي حملها المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم من السفير ديفيد هيل خلال زيارته واشنطن.
فحوى الرسائل الاميركية حَملت الالحاح على تأمين ولادة الحكومة، ومعه فُتِحت أبواب هذه الولادة. وقد تكون الاطراف اللبنانية التي عاندت ورفعت سقف خطابها وتَهَيّبت الانقلاب الذي حصل في الشارع، وجدت في كلمة السر الاميركية مخرجاً ملائماً للنزول عن الشجرة والعودة الى البحث عن مصالحها السياسية والانتخابية في الحكومة بعد الخسائر الشعبية التي طاوَلت كل الساحات ولو بِنِسَب متفاوتة تحضيراً للانتخابات النيابية المقبلة. فالحكومة الموعودة ستُشرف على الارجح على الانتخابات النيابية في موعدها بعد نحو سنة ونصف السنة.
وقبل 17 تشرين كانت القوى السياسية المختلفة تدرس سيناريوهات تأجيل الانتخابات النيابية بذريعة تزامنها مع الانتخابات البلدية والاستحقاق الرئاسي، فيما الهدف الفعلي كان أن يتم انتخاب الرئيس المقبل وفق التوازنات النيابية الحالية.
لكن، وبعد حراك 17 تشرين، أصبح من الصعوبة بمكان أن يتجرّأ فريق سياسي على الدعوة الى تأجيل الانتخابات النيابية، وبَدل ذلك سيحصل تأجيل للانتخابات البلدية، وهو ما يعني ضرورة إجراء محاصصة متأنية للحقائب للاستفادة قدر الامكان والتعويض شعبياً. مع الاشارة الى انّ وزارة الداخلية، التي رفضت حتى الآن خلافاً للقانون تحديد موعد للانتخابات الفرعية، هي التي تشرف على الانتخابات النيابية، ولا حاجة ايضاً للاشارة الى انّ المجلس النيابي الجديد سينتخب رئيس الجمهورية المقبل.
وقد تشكّل الحكومة الجديدة أيضاً باباً لتجاوز خصومات الأمس، خصوصاً بعدما بَدا التقارب واضحاً بين سليمان فرنجية من جهة وتيار»المستقبل» وحركة «أمل» و»الحزب التقدمي الاشتراكي» وقوى أخرى من جهة أخرى.
أضف الى ذلك الحلف الذي يربط فرنجية بـ»حزب الله»، وعلاقته الممتازة مع الرئيس السوري بشار الاسد.
وجاءت زيارة شينكر لبنشعي لافتة في هذا السياق، ما يعني انّ حكومة الانتخابات النيابية، لا بد ان تشهد جهوداً لِوَصل ما انقطع، وربما الى جانب خطاب سياسي جديد لباسيل على أمل استعادة بعض ما فقده في الشارع المسيحي، وذلك عبر خطاب يعيد إحياء العصبية، و»الحلفاء وعلى رأسهم «حزب الله» سيتفهّمون هذا الأمر»، إضافة الى معالجة الفشل الاعلامي من خلال خطة جديدة وربما وجوه جديدة.
لكن في الواقع تبقى حسابات الاستحقاق الرئاسي إقليمية، خصوصاً مع تَوقّع مفاوضات اميركية ـ ايرانية صعبة. والصورة الوردية التي يحلم بها البعض قد تصطدم بتَصاعد العقوبات الاميركية في لبنان، أيّاً كان ساكِن البيت الابيض، لتحضير مناخ التفاوض مع ايران. ما يعني انّ الافضل للبنان الانطلاق في حسابات الاصلاح لا حسابات المصالح الشخصية، وإلّا فالصورة ستبقى قاتمة.