لا أنسى مشهد ذاك الرجل التسعيني الذي دفعته عقيدته القومية الإجتماعية إلى تخطّي كلّ المصاعب والمخاطر في عز الحرب السورية للوصول إلى استديو "من دمشق" عام 2014 للمساهمة في رفع معنويات السوريين. كان عصام محايري أحدَ الرؤساء السابقين للحزب "السوري القومي الإجتماعي"، يملك تاريخاً حافلاً في العمل الحزبي، لكنّ خلافات القوميين وعوامل جانبية سوريّة تراكمت حينها(...)، فرضت أن يكون محايري وغيره من المنفصلين عن قيادة الحزب في بيروت. لكن "الأمين عصام" إشترط قبل إطلالته التلفزيونية حينها ألاّ نتحدث عن أيّ شؤون داخلية قومية. فهو لم يرض أن يهمس بأيّ كلمة في الإعلام توحي بوجود خلافات بين القوميين. تلك كانت آخر إطلالات محايري قبل أن يغادر الشام نتيجة العجز بسبب تقدم العمر.
وبينما كانت التباينات بين القوميين تتكرّر لأسباب عدة أهمها: نخبوية العقيدة الفكرية والسياسية التي وضعها زعيمهم أنطون سعادة، لم يرض رئيسهم الأسبق الراحل جبران عريجي أن يتحدث يوماً لا سراً ولا علناً عما يدور داخل أروقة الحزب. وحينما طالبت رئيسَ الحزب السابق النائب اسعد حردان أن يطل إعلامياً، بقي يتريث على مساحة عشر سنوات. لكنني علمت أن حردان أطلّ منذ أيام على قناة "الميادين". مما يؤكّد أن دوافع جوهرية قضت بإتخاذه قرار الإطلالة التلفزيونية، بعدما لاحت بوادر الإنقسام في قيادة الحزب جرّاء إعتراض حردان على نتائج إنتخابات المجلس الأعلى ثم الرئاسة(...).
لماذا ظهرت خلافات القوميين إلى العلن تجرح معنويات المحازبين، وتهزّ قواعد الحزب الذي راهنت عليه "الأمة" للخروج من أزماتها الطائفية والمذهبية؟ لا نكتب عن هذا الملف تدخلاً بشؤون حزبية لا علاقة مباشرة لنا بها. لكن يحقّ لكل مواطن في "الأمة" أن ينبّه قياديي الحزب إلى أن المسؤولية الإنسانية تحتّم عليهم لم الشمل اليوم قبل الغد: ستتألم روح سناء محيدلي في عليائها بسبب أزماتكم، بينما المطلوب الإرتقاء إلى مجد دماء خالد علوان في هذا الزمن بالذات. فلماذا تنحرون "الأمة" بخلافاتكم؟ لا يستحق فكر سعادة أن تشتّته التباينات، مهما كانت أسبابها. كنّا نعتقد أن دماء "نسور الزوبعة" التي سقطت في كل مساحات سوريا خلال مواجهات بطولية ضد الإرهابيين ستُجهض أي إنقسام قائم أو مُحتمل. لا بل، ستُثمر تمدّداً طبيعياً للحزب، بعدما إستباح التطرف حياة وإستقرار شعوب الإقليم منذ عام 2011، وبات فيها المواطنون على مساحة "سوريا الطبيعية" يفضّلون كل عقيدة تنبذ التطرف والإرهاب وتحارب الطائفية. ومن هنا يتصدّر " السوري القومي الإجتماعي" على مساحة إنتشار واسعة. هذا ما توقعته خلال السنوات الماضية. يومها أفصحت عن ذلك أمام حردان وعريجي ورئيس الحزب الأسبق الراحل علي قانصو. ذات الهدف قادني يومها ايضاً، كإعلامي، ومن موقع الحريص على وحدة القوميين، إلى التمني على كلّ من محايري، والوزير السوري علي حيدر (الذي يترأس حزباً قومياً)، أن يعود الحزب واحداً موحداً لمجاراة الحاجة الشعبية إلى عقيدة مدنية راقية ترص الصفوف، وتنبذ الطائفية، وتصدّ مشاريع التقسيم، وتكافح الإرهاب. كنت ولا زلت أنتظر ترجمة ما ردّده كلّ منهما: قريباً. لم أفقد الأمل. لكن ما حُكي في الإعلام منذ أسابيع عن خلافات جديدة قد تشقّ صفوف الحزب، دفعني بحسرة لطرح الأسئلة: لمن يترك القوميون "الأمة" ويتفرّغون لخلافاتهم؟ يتركونها للطائفيين والمذهبيين والمتطرفين والإرهابيين والتقسيميين والمطبّعين؟ ماذا سيقول القياديون "لرفقاء" حزبهم في دول العالم وهم الذين يتشبثون بعقيدة لم تلغها مسافات الكرة الأرضية؟.
لا يهمّ المواطن من هو الذي يتحمّل مسؤولية الخلافات داخل قيادة "القومي"، ولا الأسباب التي قادت إلى التلويح بالإنقسام. القيادات المسؤولة والحكيمة يجب ان تفرض الحلول من دون تأخير. المهم ألاّ تتكرر تجارب "طوارئ" و"مجلس أعلى" و"جناح جورج عبدالمسيح". لا ينقص "الأمة" مزيداً من الأزمات الجوهرية في حال تشتت شمل حزب قدّم من يوم تأسيسه أكبر عدد من رؤساء وأمناء، في مشهد يدل على حيوية لا تتواجد نسبياً عند أحزاب الأمة.
رغم كلّ ما حصل، يعرف القوميون الآن أنّ أيّ إنقسام هو إنتحار للحزب، وبالتالي نحرٌ للأمة. وهذا هو سبب جوهري لوقف تدحرج أزمة الحزب "السوري القومي الإجتماعي" نحو حل مطلوب وقريب.