ليس من المبالغة القول إنّ محطة اعتذار الرئيس مصطفى أديب، ومن ثم عودة الرئيس الحريري إلى تولي مهمة تأليف الحكومة الجديدة على الأسس التي تحترم موازين القوى في البرلمان، كانت بمثابة إعلان التسليم بفشل محاولة الانقلاب على المعادلة السياسية، وبالتالي الإقرار بالعجز عن فرض حكومة أميركية الهوى يُقصى عنها حزب الله وحلفاؤه.
على أنّ عودة الرئيس الحريري لتشكيل حكومة توافقية، تجمع الفريق الأميركي والفريق الوطني، بعد سنة على استقالة الحريري، من دون أن نشهد تحركات احتجاجية ضدّ عودته، لا سيما من قبل مجموعات الأنجيؤز، إنما هي مؤشر قوي على زيف ما كانت تطرحه هذه المجموعات من شعارات ضدّ الطبقة السياسية تحت عنوان «كلن يعني كلن»، ودليل واضح على أنّ الأجندة التي كانت تتولى تنفيذها إنما هي أجندة أميركية، هدفها الوحيد كان محاولة النيل من صورة وسمعة حزب الله المقاوم عبر القول إنه جزء من منظومة الفساد.. واستطراداً إضعاف موقف العهد حليف حزب الله والذي يمنحه غطاء رسمياً ومسيحياً كان له دور مهمّ في إحباط مخططات الفتنة الأميركية الصهيونية، وإفشال خطط الانقلاب الأميركية التي استهدفت الإمساك بناصية القرار اللبناني بكلّ مفاصله الأساسية.. رئاسة الجمهورية، والبرلمان، والحكومة، من خلال السعي لفرض إجراء انتخابات مبكرة في ظلّ الأزمة الاقتصادية والمالية والاجتماعية العاصفة بالبلاد ومحاولة توظيفها للإتيان بأغلبية نيابية موالية للسياسة الأميركية تعمل على إعادة تشكيل السلطة، بما يمكن واشنطن من إقصاء حزب الله وحلفائه، وعزل المقاومة تمهيداً لإعادة طرح نزع سلاحها…
لكن هل أنّ فشل الانقلاب الأميركي في تحقيق ما هدف إليه، وعودة واشنطن إلى التسليم بتشكيل حكومة توافقية تعكس توازن القوى في البرلمان، كما يوحي الكلام الأخير الصادر عن ديفيد هيل؟ وهل يعني ذلك أنّ لبنان يسير على طريق الخروج من أزماته؟
أولاً، إنّ ما حصل هو فشل تنفيذ الانقلاب، والعودة إلى نقطة البداية، أيّ التعايش بين الفريق الأميركي والفريق الوطني في حكومة برئاسة الحريري، ومعروف أنّ الأزمات الاقتصادية والمالية والخدماتية والاجتماعية كانت قائمة قبل اندلاع الاحتجاجات في 17 تشرين الأول 2019، وكانت النقاشات والسجالات حامية، داخل الحكومة وخارجها حول الطرق المثلى للسيطرة على هذه الأزمات، ووضع لبنان على سكة الخروج منها، وفي هذا السياق أفضت نقاشات الحكومة في حينه إلى الاتفاق على صيغة الورقة الاقتصادية لمعالجة الأزمة… وعلى الرغم من أنّ الورقة لا ترقى إلى مستوى أن تكون ورقة إصلاحية، إلا أنه لو أتيح المجال لتطبيقها لما كنا قد بلغنا هذا المستوى من الانهيار والتدهور الاقتصادي والمالي والمعيشي، ولكانت الحلول أقلّ كلفة مما هي عليه اليوم، بعد سنة من استقالة الحريري استجابة للضغط الأميركي…
ثانياً، إنّ ما هو مطروح اليوم في ظلّ سعي الحريري لتشكيل حكومة جديدة لا يختلف، لناحية مضمون موازين القوى، عما كانت عليه حكومته السابقة، ولا لناحية معالجة الأزمة عبر الاستدانة من صندوق النقد الدولي والدول المانحة في مؤتمر «سيدر».. وبالتالي فإنّ النقاش عاد ليتمحور حول الشروط المطروحة للحصول على قروض جديدة، ستزيد من حجم الدين وفوائده… الرئيس الحريري وكلّ الفريق الموالي للغرب يدعو الى الموافقة على شروط صندوق النقد من دون نقاش، تحت مبرّر الحاجة الماسّة لتأمين دولارات طازجة، لمنع تفاقم الأوضاع المالية والتراجع المستمرّ في سعر صرف الليرة وانعكاساته السلبية على الأوضاع المعيشية للبنانيين… وفي المقابل فإنّ حزب الله، ومعه حلفاؤه، لا يوافق على جميع شروط الصندوق ويدعو إلى رفض الشروط التي تتعارض مع مصلحة لبنان، وقبول الشروط التي لا تضرّ بهذه المصلحة.. ومن أهمّ الشروط المرفوضة.. رفع الضرائب غير المباشرة، وتحرير سعر صرف الليرة، ورفع الدعم عن السلع الأساسية، وتخصيص المؤسسات الخدمية، وبيع أملاك الدولة العامة.. فالاستجابة لمثل هذه الشروط سوف يكون له تداعيات سلبية خطيرة في اتجاهين..
الاتجاه الأول، تدهور القدرة الشرائية للمواطنين على نحو يتجاوز بكثير ما هو عليه اليوم، مما سيؤدّي إلى مفاقمة الأزمة الاجتماعية والتسبّب بانفجار الوضع الاجتماعي.. لعدم قدرة الناس على تحمّل الارتفاع الكبير في أسعار المواد والسلع الأساسية…
الاتجاه الثاني، فقدان الدولة لمداخيلها الأساسية المتأتية من عائدات المؤسّسات الخدمية المهمّة في إيراداتها للخزينة العامة، مثل قطاع الهاتف الخليوي، والمرافئ العامة، والأملاك العقارية، وخصوصاً البحرية والنهرية.. إلخ… والتي في حال تخصيصها ستذهب أرباحها إلى صناديق الشركات الخاصة…
وهذا ما يجعل الدولة اللبنانية، بعد استهلاك القروض ودنو استحقاقات دفع الفوائد الجديدة مع القديمة، مرتهنة بالكامل للدائنين من صندوق النقد والدول المانحة، وفاقدة القدرة على معارضة السياسات الغربية، بل خاضعة إليها لا تستطيع مقاومتها.. الأمر الذي يوفر للولايات المتحدة، ومن خلفها العدو الصهيوني، الظروف المواتية لتشديد الضغط على لبنان ومقاومته، وطرح مقايضة، إعفاء لبنان من بعض ديونه، ومنحه مساعدات مالية، مقابل نزع سلاح المقاومة، أي حرمان لبنان من قوته التي تحميه من التهديدات والأطماع الصهيونية، وتشكل ضمانته لتحرير ما تبقى من أراضيه المحتلة، وتحقيق عودة اللاجئين من أبناء الشعب الفلسطيني إلى أرضهم وديارهم في فلسطين المحتلة..
ثالثاً، من هنا فإنّ المعركة، بعد فشل الانقلاب الأميركي ضدّ المقاومة وحلفائها، انتقلت لتتمحور من جديد حول سبل مواجهة الأزمة، والموقف من شروط صندوق النقد الدولي، وبالتالي الموقف من استمرار سياسة الاستدانة، وما تعنيه من إيغال في النهج الريعي الذي أغرق البلاد بالديون وأفقر اللبنانيين.. ذلك أنّ خطورة الاستمرار في هذه السياسة يجعل لبنان أكثر ارتهاناً للغرب الاستعماري، الذي طالما استخدم سلاح الدين وسيلة لاستدراج الدول للوقوع في فخ الاستدانة والعجز عن السداد لابتزازها وإخضاعها لشروط هيمنته الاستعمارية، والتي في منطقتنا لا تنفصل عن الشروط الصهيونية..
انطلاقاً مما تقدّم، فإنّ ما هو مطلوب، ليس فقط الاكتفاء بما تحقق من إحباط الانقلاب الأميركي، بل والعمل لمنع واشنطن من العودة لتحقيق انقلابها بواسطة استدراج لبنان إلى فخ الاستدانة بشروط صندوق النقد الدولي، ومنع لبنان من سلوك طريق:
*إعادة النظر في سياساته الريعية التي تسبّبت بالأزمة المالية والاقتصادية والاجتماعية…
*… وتنويع علاقاته الاقتصادية مع كلّ الدول للحصول على المساعدات من دون شروط، ودعم قطاعات الإنتاج والنهوض بها.
لهذا من العبث المراهنة على وضع حدّ لهذه الأزمة وإخراج لبنان من مستنقعها، عبر الاستمرار في السياسات الريعية القائمة على تهميش الإنتاج، والقاتلة للنمو الاقتصادي الحقيقي الذي ينتج وينمّي الثروة… ومنع لبنان من الاتجاه شرقاً لبناء شراكات اقتصادية بعيداً عن الهيمنة وأفخاخ الاستدانة المذلة.. لهذا فإنّ المهمة الوطنية، بعد إحباط خطة الانقلاب الأميركية، إنما هي رفض شروط صندوق النقد الدولي، وفرض تغيير في السياسات الريعية لمصلحة العودة لدعم التنمية الاقتصادية بكلّ مجالاتها، الصناعية والزراعية والسياحة والمعلوماتية.. والانفتاح على الشرق بدءاً من سورية، عندها فقط يمكن القول إنّ لبنان نجح في شقّ طريقه نحو الخروج من أزماته الاقتصادية والمالية، وأحبط الرهانات الأميركية، على إغراقه في المزيد من الديون وشروطها المذلة، لفرض الإملاءات الصهيونية عليه…