شكلت الرسوم الساخرة والمسيئة للرسول الأكرم محمد، والدفاع عنها من قبل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون باعتبارها تندرج في إطار حرية الرأي والتعبير.. والأعمال والجرائم الإرهابية التي أعقبتها، ومن ثم إقدام المسؤولين الفرنسيين على وصف هذه الجرائم، بالفاشية الإسلامية، والربط بين الإرهاب والاسلام كدين.. شكلت هذه الأحداث العنوان الأبرز الذي تقدّم على بقية العناوين المهمة في العالم.. وطرح الأسئلة عن الأسباب المباشرة وغير المباشرة الكامنة وراء نشوء الإرهاب، ومن هو المسؤول عما حصل، وما هو الهدف منه؟
أولاً، في الأسباب المباشرة… تكمن في قيام الجريدة الفرنسية المسمّاة «شارلي إيبدو» بنشر رسوم ساخرة تسيء لنبي المسلمين محمد… ومن ثم عرض هذه الرسوم في المدارس مما شكل استفزازاً للطلاب المسلمين وعموم الجالية الإسلامية في فرنسا.. وأدّى ذلك إلى إقدام مجموعة على قتل الأستاذ الذي قام بعرض الرسوم على طلابه، ومن ثم تطوّرت الأمور وحصلت التداعيات التي ذكرناها آنفاً…
إذاً السبب المباشر الذي أشعل الشرارة الأولى كانت، الرسوم الساخرة التي نشرتها جريدة «شارلي إيبدو»، والتي زاد من إشعالها بدلاً من المسارعة إلى احتوائها، تصريحات ماكرون التي وصف فيها الهجوم الإرهابي الذي استهدف الأستاذ الفرنسي، بالإرهاب الإسلامي، مما أشعل المزيد من الاحتجاجات في فرنسا والعالم الإسلامي، وأدّى إلى توفير المناخات المواتية لقيام مجموعة إرهابية على قتل عدد من الفرنسيين في مدينة نيس…
ثانياً، أما في الأسباب غير المباشرة، فإنها تكمن في جملة من العوامل التي تشكل الأساس في نشوء الإرهاب وتغذيته في العالم.. وهذه العوامل يمكن تلخيصها بالتالي..
العامل الأول، التحريض على التطرف الديني، من خلال الإساءة للرموز والمقدسات الدينية والمعتقدات لدى الشعوب.. فمثل هذه الإساءة تشكل اعتداء وانتهاكاً سافراً لحرية الرأي والتعبير والمعتقد.. فالحرية يجب أن تتوقف عندما تبدأ حرية الآخرين، ويجب أن تنزّه عن التعرّض للمقدسات والمعتقدات الدينية، من أي اتجاه كان.. ومثل هذه الاعتداءات والانتهاكات تسبّب في تولد ردود فعل غاضبة متطرفة، وإنعاش التيارات الدينية المتشدّدة، وتغذيتها وتوفير البيئة المواتية لها للقيام بردود فعل انتقامية..
العامل الثاني، ازدياد الاستغلال الاقتصادي، المسبّب الأساسي للتفاوت الاجتماعي وانتشار الفقر والحرمان وتشكل أحزمة البؤس في ضواحي المدن الفاخرة والضاجّة بحياة الرفاهية والبذخ والترف.. كما هو حال باريس وضواحيها التي باتت تضمّ ملايين المهمّشين والعاطلين من العمل، وهو ما أدّى قبل سنوات إلى انتفاضة سُمّيت بانتفاضة الضواحي…
العامل الثالث، التمييز العنصري والأفكار التي تصنّف البشر درجات، حسب لون البشرة والجنس… وهذا التمييز عاد وانتشر مؤخراً في ظلّ حكم الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي أحيا وأنعش مجدّداً التمييز والتفرقة العنصرية بين سكان الولايات المتحدة، وأدّى إلى إنعاش العنصرية في الدول الغربية الاستعمارية، التي استعبدت الأفارقة السود، وعاملتهم كعبيد واستخدمتهم في بناء امبراطورياتها الاستعمارية إلخ…
العامل الرابع، الاستعمار والاحتلال وسلب حقوق الشعوب ونهب ثرواتهم، هو أصل الإرهاب… فالاحتلال والاستعمار يقوم على قتل السكان الأصليين وقمعهم وطردهم من أرضهم، على غرار ما حصل في أميركا، وفي فلسطين المحتلة.. كما يقوم على إرهاب وإخضاع الدول والشعوب لضمان استمرار عملية نهب ثرواتها.. كما فعل الاستعمار الفرنسي في الجزائر وأفريقيا حيث ارتكب المجازر الوحشية الإرهابية وجرى التفنّن في عمليات القتل الإرهابية لوأد حركات المقاومة، وخصوصاً في الجزائر، التي باتت تعرف باسم ثورة المليون ونصف المليون شهيد…
العامل الخامس، صناعة التنظيمات الإرهابية من قبل الدول الغربية الاستعمارية، حتى تقوم هذه التنظيمات بدور شنّ الحروب بالوكالة، لإسقاط أنظمة تقدمية تحرّرية، أو تغيير حكومات تابعة للغرب استهلكت ولم تعد قادرة على القيام بالوظيفة المطلوبة منها.. وهذا ما تجسّد في قيام الغرب بقيادة أميركا في صناعة تنظيم القاعدة بدعم سعودي مصري باكستاني لاستنزاف الجيش السوفياتي وإسقاط نظام نجيب الله في أفغانستان، وبعد ذلك جرى إنتاج نسخ جديدة ومتعددة من تنظيمات القاعدة الإرهابية، أبرزها داعش والنصرة، لتقوم بمهمة تدمير سورية وليبيا، وإعادة السيطرة على العراق إلخ… وفرنسا من الدول التي أسهمت في دعم هذه التنظيمات الإرهابية عبر تمكين الوهابية السعودية، من تنظيم الشباب المسلم المهمّش في فرنسا وإرسالهم، بإشراف الاستخبارات الفرنسية، إلى تركيا ومنها إلى سورية والعراق…
ثالثاً، الهدف من السماح بالإساءة للنبي محمد واتهام الدين الإسلامي بالإرهاب، إنما هو للاستغلال السياسي من قبل الرئيس الفرنسي ماكرون وحزبه عشية الانتخابات، حيث يحتاج ماكرون إلى تعويم شعبيته المتراجعة بسبب الأزمات التي تعاني منها فرنسا، اقتصادياً واجتماعياً.. وأفضل وسيلة لإبعاد الأنظار عن مسؤولية سياساته في تزايد الأزمات وتراجع مستوى معيشة الفرنسيين، افتعال أحداث إرهابية لخلق استقطاب حادّ بين الفرنسيين والجالية الإسلامية في فرنسا، ومن ثم محاولة الظهور بمظهر من يدافع عن القيم الفرنسية في مواجهة ما يسمّى «الإرهاب الإسلامي»، الذي شارك، في صنعه وتغذيته، النظام الرأسمالي الاستعماري الفرنسي، في الخارج والداخل على حدّ سواء…
من هنا فإنّ من يقف وراء دفع جريدة «شارلي إيبدو» لنشر الرسوم الساخرة، ومن ثم توفير الغطاء لها لمواصلة نشر هذه الرسوم، تحت عنوان حرية الرأي والتعبير، إنما هو السلطات الفرنسية، وتحديداً الرئيس ماكرون، الذي سارع إلى الدفاع عن الجريدة، واتهام الإسلام بالإرهاب، وهو يعرف ويدرك بأنّ الدين الإسلامي يدعو الى التسامح والرحمة، ويرفض التطرف وقتل الأبرياء، ويؤكد على احترام عقائد الآخرين، وعدم الإكراه بالدين.
خامساً، إنّ إدانة جريمة نيس وغيرها من الجرائم الإرهابية يجب أن تكون مرتبطة أيضاً بإدانة الأفعال التي تحرّض على ارتكاب مثل هذه الأعمال الإرهابية، والتمييز بين الفعل الإرهابي، ومن يقوم به، وبين الدين وعموم الناس الذين يعتنقون هذا الدين، انْ كان الإسلام او المسيحية، أو المعتقدات كالبوذية والهندوسية إلخ…
إنّ الجماعات الإرهابية التكفيرية التي تدّعي انتماءها للإسلام، هي من صنع الغرب الذي دعمها ودرّبها وسلّحها وسهّل إرسال مسلحيها إلى سورية والعراق وبقية دول المنطقة، وذلك باعتراف المسؤولين الأميركيين، ورغم التحذيرات من مخاطر دعم هذه الجماعات وانّ الإرهاب الذي مارس القتل والمجازر والتدمير الوحشي في سورية سوف يرتدّ لاحقاً على دول الغرب، التي رعت الإرهاب واستخدمت الإرهابيين كأدوات لتحقيق أهدافها الاستعمارية… إلا أنّ دول الغرب وفي الطليعة الحكومة الفرنسية، أوغلت في دعم الإرهاب والاستثمار فيه خدمة لسياساتها الاستعمارية..
واليوم أقدمت السلطات الفرنسية، بشكل متعمّد، على افتعال معركة مع الإسلام والمسلمين في فرنسا والعالم أجمع.. لماذا، لأنّ ماكرون وجد في ذلك مصلحة انتخابية له يريد تحقيقها على حساب أمن واستقرار الشعب الفرنسي، وقيم الحرية، لتضليل الفرنسيين ودفعهم إلى إعادة انتخابه، تماماً كما يفعل ترامب من خلال إباحة قتل المواطنين الأفارقة في أميركا على أيدي المتطرفين البيض، لأجل كسب تأييد العنصريين البيض…