على الرغم من سعي الأفرقاء المعنيين إلى الحفاظ على الحد الأدنى من الأجواء الإيجابية التي ترافق تأليف الحكومة العتيدة، بات من الواضح أن هذه العملية تصطدم بالعديد من العراقيل، التي تؤكد أن القوى السياسية لا تزال عند الممارسات الماضية، لناحية إضاعة الوقت والفرص مهما كان الثمن، بإنتظار تحسين شروطها وحصصها، بغض النظر عن الكوارث التي يعاني منها المواطن بشكل يومي.
قبل ما يقارب الشهر من اليوم، أضاعت هذه القوى فرصة تأليف حكومة برئاسة السفير اللبناني في برلين مصطفى أديب، نتيجة الصراع على الحصص وعلى تركيبة الحكومة، إلا أنّ الجهود الفرنسية، التي بذلت على هذا الصعيد، حالت دون إنهيار المبادرة القائمة منذ تاريخ الإنفجار الذي حصل في مرفأ بيروت في الرابع من آب الماضي.
في الوقت الراهن، يبدو أن القوى نفسها في طور إعادة التجربة نفسها، بعد أن كانت، طوال الفترة التي تلت تسمية رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، تعمد إلى تسويق معلومات عن أجواء إيجابية ترافق عملية التأليف، ليتبين لاحقاً أن "شيطان" التفاصيل حاضر بقوة، من "الكباش" على الثلث المعطل إلى "الصراع" على الحقائب السيادية والخدماتية.
هذا الواقع، يؤكّد بما لا يقبل الشك أنّ الأفرقاء السياسيين لم يتعلموا من التجارب الماضية، لا بل يمكن الجزم أنهم منفصلون عن الواقع الذي يمر به اللبناني، فهم يتصرفون على أساس أن الأوضاع "بألف خير"، لا إنهيار مالي وإقتصادي وإجتماعي ولا ظروف صحية تستدعي الإسراع بتشكيل حكومة تضع خطة إنقاذ، فالأولوية لديهم كسب "المغانم" حتى ولو كانت الخزينة العامة "فارغة".
قد يكون من المفيد أن يسأل هؤلاء جماهيرهم إن كانت تهتم بهويّة أيّ وزير ولأيّ حزب ينتمي، أو بالحقائب التي سيحصل عليها هذا الفريق أو ذاك، أم أنّ همومهم باتت في أمكنة أخرى يتعلق بمصير أوضاعهم المعيشية، حيث يجاهد معظم اللبنانيين في البحث عن وسيلة تساعدهم في الحفاظ على الحد الأدنى المطلوب من حياتهم الماضية، بعد أن قادتهم تلك القوى إلى الإنهيار الشامل والسريع.
في الأيّام الماضية، كانت معظم القوى والشخصيات السياسية "تبشّر" اللبنانيين بأنّ البلاد أمام "الفرصة" الأخيرة للإنقاذ، الأمر الذي فرض الذهاب إلى "تسوية" لا يؤمن الكثيرون بقدرتها على معالجة الكمّ الهائل من الأزمات التي تمر بها البلاد، لكنهم على ما يبدو لا يمانعون "المغامرة" بهذه الفرصة، التي تحدثوا عنها مطولاً، في حال لم تكن نتائجها تصب في صالحهم، مقدمين "الحجج" التي يعتبرون أنها "مفصليّة" ولا يمكن تجاوزها.
في هذا الإطار، يطرح البعض نظريّة الإنتهاء من الإنتخابات الرئاسيّة الأميركية لحسم التوجه الحكومي، بالرغم من أن هذه الإنتخابات، أياً تكون هوية الرئيس المقبل في الولايات المتحدة سواء المرشح الديمقراطي جو بايدن أو الجمهوري دونالد ترامب، لن تفضي إلى معطيات عمليّة جديدة، إلا إذا كان هناك من يراهن على نتائجها لرفع مستوى مطالبه وتحسين شروطه، بغض النظر عن الوقت الذي سيتطلبه ذلك كي يُترجم عملياً، على إعتبار أن ذلك يعني ربط الملف الحكومي بملفات أخرى على مستوى المنطقة.
في المحصّلة، على الرغم من أن الدول ليست جمعيات خيريّة تقدم خدمات مجانيّة، فإنّ أخطر ما في "لعبة" إضاعة الوقت، التي تحترفها القوى السياسية اللبنانية، هو الإنشغال الفرنسي بالأوضاع الداخليّة لديه، بعد أن كانت باريس تضع كل ثقلها لإنجاز "تسوية" محلّية، فلبنان اليوم لم يعد على رأس جدول أعمال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، ما يعني أن "المماطلة" لن تقود إلا إلى المزيد من "التعقيد".