مُنذ تكليف رئيس تيّار المُستقبل النائب سعد الحريري تشكيل الحُكومة الجديدة، يتعمّد المَعنيّون بعمليّة التأليف الصمت وعدم تسريب مَضمون المُحادثات، على أمل عدم التشويش على جُهود التشكيل. لكن إذا كان صحيحًا أنّ هذا الأسلوب ناجح على المدى القصير، فإنّ الأصحّ أنّه كلّما طالت ولادة الحُكومة، كلّما زادت الإشاعات وكثرت الأقاويل، علمًا أنّ من حقّ الرأي العام اللبناني أن يطلع على مُجريات ما يحدث أصلاً، وهو الذي صار كالغريق الذي يتعلّق بقشّة!في كلّ الأحوال، في ظلّ عدم صُدور سوى بيانات مُقتضبة وعُموميّة عن مُجريات عمليّة التأليف، ما هي المَعلومات المُتوفّرة عن مسار الملفّ الحُكومي؟.
أوّلاً: على الرغم من التأثير الخارجي على الوضع الداخلي اللبناني، إن لجهة الضُغوط لمنع تسليم "حزب الله" وزارات مُحدّدة–بغضّ النظر عن هويّة الحزب الحاكم وعن هويّة الرئيس الأميركي الفائز، أو لجهة تراجع المُتابعة الفرنسيّة للملفّ اللبناني بسبب غرق الرئيس الفرنسي إيمانيول ماكرون بمشاكل فرنسا الأمنيّة الداخليّة والتوتّرات الكلامية مع بعض الدول، من الواضح أنّ العراقيل الداخليّة هي التي أثّرت سلبًا بشكل أساسي على ولادة الحُكومة التي كانت مَوعودة في نهاية الأسبوع الماضي أو مطلع الأسبوع الحالي، مع الإقرار في الوقت عينه أنّ بعض الجهات السياسيّة في لبنانتنتظر نتائج تصويت الأميركيّين لتبني على الشيء مُقتضاه.
ثانيًا: الخلاف على شكل الحُكومة لا يرتبط بخفض تكاليف رواتب الوزراء إذا كانت مُصغّرة، ولا إلى منح كل وزير حقيبة إذا كانت مُوسّعة-كما يجري تعميمه على البُسطاء، بل هو مُرتبط بتوازنات سياسيّة وطائفية ومذهبيّة دقيقة، ومُرتبط بالثلث المُعطّل أو الضامن، ومُرتبط كذلك الأمر بالجهات السياسيّة والحزبيّة التي ستتمثّل داخل الحُكومة. وبالتالي، إنّ حُكومة من 18 وزيرًا–كما يُطالب رئيس الحُكومة المُكلّف، تعني حُصول كل من الشيعة والسنّة على 4 وزراء إضافة إلى وزير درزي واحد، وتعني عدم تمتّع أيّ فريق سياسي واحد بالقُدرة على إسقاط الحُكومة وحده، إلا إذا إعتبرنا أنّ إستقالة الوزير الدُرزي الوحيد تؤثّر على ميثاقيّة الحُكومة. من جهة أخرى، إنّ حُكومة من 20 وزيرًا تعني إضافة وزير لكل من الدُروز والكاثوليك، وحُكومة من 22 وزيرًا تعني إمكان توسيع التمثيل السياسي والمذهبي أكثر فأكثر. هذا نظريًا، أمّا عمليًا، فإنّ توسيع الحُكومة لتضم وزيرين دُرزيّين يعني عدم حصر التمثيل الدرزي بالحزب التقدمي الإشتراكي، ويعني توسّع حُصّة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون والتيّار الوطني الحُرّ إلى سبعة وزراء، أي إمتلاك ورقة الثلث زائد واحد من دون الإستعانة بأي حليف. وبحسب آخر المَعلومات، فإنّ الإتّجاه بات يميل إلى حُكومة من 18 وزيرًا، لأنّ توسيع الحُكومة أكثر، سيفتح الباب أمام مزيد من المشاكل والعراقيل.
ثالثًا: يُريد الحزب التقدّمي الإشتراكي أن يُمثّل الطائفة الدرزيّة وحده، كونه الأكثر تمثيلاً نيابيًا وشعبيًا، مُتحجّجًا بباقي الطوائف، خاصة وأنّ رئيس حزب التوحيد وئام وهاب لم ينجح في الإنتخابات النيابيّة، ورئيس الحزب الديمقراطي اللبناني طلال أرسلان نجح وحيدًا وكتلته تضمّ ثلاثة نواب مسيحيّين. وبالتالي وفي حين يُطالب النائب أرسلان–مَدعومًا من قبل بعض القوى الحليفة، بأن يتمثّل بوزير درزي في الحكومة، يدعوه الحزب التقدّمي للتمثّل بوزير مسيحي. من جهة أخرى، إنّ تمثّل الحزب الديمقراطي اللبناني بنفس حجم تمثيل الحزب الإشتراكي في وزارة من 20 وزيرًا، سيدفع تيار المردة إلى المُطالبة بدوره بان يتمثّل بوزيرين من أصل الوزراء العشرة من حصّة المسيحيّين في هذه الحال. كما يُمكن أن يفتح تمثيل النائب أرسلان الذي رفض منح رئيس الحُكومة المُكلّف ثقته،ولم يحضر أساسًا إلى الإستشارات المُلزمة، الباب أمام تمثيل "اللقاء التشاوري" وغيره من القوى التي لم تُصوّت لصالح تكليف الحريري. وبالتالي، من هذا المُنطلق، بات البحث يميل إلى إعتماد حُكومة من 18 وزيرًا فقط، لتجنّب كل هذه المطبّات.
رابعًا: بالنسبة إلى موضوع المُداورة، وإضافة إلى إستثناء "الثنائي الشيعي" من هذا المبدأ، عبر منحه وزارة المال مُجدّدًا، لا توافق بعد على توزيع الحقائب المُصنّفة سياديّة وخدماتيّة، علمًا أنّ المُنافسة مُحتدمة في هذا السياق، حيث يتردّد أنّ فريق رئيس الجُمهوريّة يريد الإمساك بالوزارات الأمنيّة والقضائيّة، بينما تيار المُستقبل يريد تطبيق مبدأ المُداورة، وهو أيضًا يريد نيل وزارة سياديّة في حال تخلّيه عن الداخليّة، بشرط ألا تؤول إلى نفس الفريق الذي سيحصل على وزارة الدفاع،وعين المُستقبل على وزارة الخارجيّة مثلاً، ليكون وزير الخارجيّة عندها سفير رئيس الحُكومة في العالم لتأمين الدعم الدَولي المَطلوب للبنان. وليس بسرّ أنّ المعركة مُحتدمة على وزارة الداخليّة، كونها وزارة مُؤثرة جدًا على صعيد تنظيم الإنتخابات النيابيّة وإدارتها، حيث يعتقد أكثر من طرف أنّ الحُكومة التي ستتشكّل ستبقى حتى موعد الإنتخابات النيابيّة المُقبلة في ربيع العام 2022، وليس لفترة ستة أشهر فقط وبمهمّة إقتصاديّة حصرًا–كما يتردّد. ومن غير المُستبعد أن تبقى الوزارات السياديّة مُوزّعة بنفس الشكل الذي كانت عليه في حُكومة الحريري الأخيرة، تجنّبًا لفتح المزيد منالأبواب المُغلقة! إلى ذلك، يشمل الصراع وزارة الأشغال أيضًا، لما لها من تأثير على المُستوى الخدماتي عشيّة الإنتخابات النيابيّة. كما أنّ الخلاف لا يزال قائمًا على وزارة الطاقة في ظلّ المُستقبل الواعد لهذه الوزارة، في حال إتمام مُفاوضات ترسيم الحدود مع إسرائيل، وفي حال تلقّي لبنان أيّ مُساعدات خارجيّة لمُعالجة مُشكلة محطّات توليد الكهرباء. ويطال شدّ الحبال أيضًا وزارة الصحّة وغيرها من الوزارات، الأمر الذي ينفي مسألة التوافق على المُداورة او على توزيع الحقائب حتى هذه اللحظة.
في الخُلاصة، إنّ تذليل العقبات القائمة ليس سهلاً، وكل يوم يمرّ يزيد النقمة الشعبيّة المُتعاظمة على الطبقة السياسيّة كلّها، بغضّ النظر عن أسباب التأخير وعن هويّة المُعرقل الأساسي، لكنّ الأكيد أنّ إتصالات كثيفة تجري حاليًا خلف الكواليس، في مُحاولة جديدة لتذليل العقبات، مع الإشارة إلى أنّ التواصل بين رئيس الجُمهوريّة ورئيس الحُكومة المُكلّف مَفتوحٌ، مع توقّع أن يلتقيا مُجدّدًا خلال الساعات المُقبلة، علمًا أنّ رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي دخل بدوره على خط حلّ العقبات. وفي كلّ الأحوال، صار واضحًا أنّ نجاح عمليّة التشكيل يعني ولادة حُكومة مُشابهة من حيث الشكل والمضمون لحكومة تصريف الأعمال الحاليّة، مع إستبدال هويّة رئيسها فقط لا غير!.