غريب امر الاسرائيليين، فهم من ناحية يهللون حين يجذبون دولاً عربية الى صفوف التطبيع (بضغط ومباركة اميركيين بطبيعة الحال)، ويقدمون انفسهم على انهم دعاة السلام والحوار، ويتحدثون عن انجازات كبيرة مع لبنان بفعل المفاوضات غير المباشرة لترسيم الحدود البرية والبحرية وصولاً الى التفاؤل بامكان تحقيق اتفاق سلام مع لبنان، ومن ناحية اخرى تراهم يهوّلون عبر تدريبات قتالية ميدانية في قرى تم بناؤها خصيصاً لتشابه القرى اللبنانية الحدودية. فهل نحن امام انفصام ام رسالة معيّنة يريدون ايصالها؟ الواقع يشير الى ان الثانية هي الارجح، لانه لو كانت الحالة الاولى هي السائدة، لكان حصل اشتباك او احتكاك عسكري على الاقل، ولكن الاسرائيليين لا يعملون وفق هذه الصيغة المتهوّرة، وهذا ما تم اثباته على مر عقود من الزمن في لبنان وسوريا. لم تكن الغزوات التي قاموا بها الى لبنان في السابق غير مدروسة، بل كانت بضوءاخضر خارجي ووفق خريطة محددة، إلا انّه في العام 2006، لم تجرِ الرياح بما تشتهي سفن خططهم، فاكتفوا بسياسة التدمير بدل الغزو.
هذا الامر يعيدنا الى الحالة الثانية اي ايصال رسالة تقضي بأن لبنان امام سياسة العصا والجزرة، فإما نجاح المفاوضات واما الاستعداد للحرب. ولكن هذه الرسالة تفتقد الى الدقة والمعطيات ومقومات النجاح، اذ لا يخفى على احد ان لبنان ليس في افضل حالاته، لا بل يعاني من اسوأ حالة شهدها في مراحل تاريخه، لكن هذا لا يعني انه لن يكون شوكة في خاصرة اسرائيل اذا ما قررت اجتياز الحدود البرّية. فمن الناحية السياسية عانى رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتانياهو الأمرّين كي يبقى في منصبه، وهو استنفذ كل اوراقه السياسية والدبلوماسية واستغاثاته بالاميركيين للتطبيع مع دول عربية، في سبيل عدم انتهاء حياته السياسية وعدم مواجهة التهم القضائية بحقّه، والتي قد تحوله الى ايهود اولمرت آخر. اما من الناحية العسكرية، فلم نعد في عصر الحروب الميدانية وخسارة الجنود الا بالحالات النادرة، فمن الذي سيتحمل وزر مثل هذا القرار في الداخل الاسرائيلي، مع كل ما يعنيه ذلك من فشل الاهداف الموضوعة، حيث ستكون الحصيلة مشابهة لما حصل في العام 2006، فلو نجح الاسرائيليون في تدمير مناطق وقرى لبنانية، الا انهم لن ينجحوا في تغيير الستاتيكو القائم، وبالتالي ستكون تبعات عملهم العسكري كارثيّة على المسؤولين السياسيين عندهم وامام الخارج الذي لن يرضى بمثل هذه النتيجة، كما انهم سيحرجون العرب المنضمّين حديثا ًالى قطار التطبيع، وسيعقدون الامور امام دول اخرى تنتظر ركوب القطار. هذه النتيجة الكارثيّة ستتضاعف اذا ما اخذنا بالاعتبار التواجد العسكري الروسي في المنطقة والذي سيصبح محرجاً بفعل اي حرب ستنشأ على حدود تواجده، والانتخابات الرئاسية الاميركية التي لن تؤيد -أياً كانت نتيجتها- اعتماد خيار عسكري بدليل ابتعاد ادارة الرئيس السابق باراك اوباما عن الحروب واستمرار الرئيس الحالي دونالد ترامب في السياسة نفسها ولجوئه الى الحرب الاقتصاديّة لتحقيق اهدافه، اضافة الى تفشي وباء كورونا ومصائبه على الجميع، وملف النازحين السوريين الذين سيغزون اوروبا وقد تضاف اليهم اعداد من اللبنانيين ايضاً.
كل ما سبق يشير الى انّ التهديد بالحرب ليس سوى تهويل، فمقوّمات حصوله شبه معدومة، والتدريبات العسكريّة مجرد معنويات تعطى للاسرائيليين جنوداً ومدنيين، لطمأنتهم الى ان الامور تحت السيطرة ولا داعي للخوف او القلق من اي شيء، ولو كانت الازمة السياسية الداخلية في اوجها، والمشكلة الاقتصادية متفاقمة، وتهديدات كورونا متزايدة، ما يعني انها باتت اقرب الى كونها رسالة للداخل الاسرائيلي من كونها رسالة للبنان.