يخوض ترمب اليومً آخر معاركه الحاسمة للبقاء في البيت الأبيض ، بعد أن وضعت حملته الإنتخابية أوزارها التي اعتمدت على زيارات متكررة للرئيس للولايات المتأرجحة وسط مهرجانات انتخابية صاخبة . بالأمس قام بزيارة ٣ ولايات , ميشيغن ، ويسكونسن وبنسلفانيا ، برنامج انتخابي مُكّثف يعكس القلق الذي يعتري حاكم أميركا الذي طالما تهكّم على المهزومين حتى في صفوف حزبه، حتى أنه نعت السناتور الجمهوري الراحل جون ماكين بالضعيف لأنه وقع في الأسر في حرب ڤيتنام . فقد زار ولاية ميشيغن خمس مرات في أسبوع واحد في منحى يعكس إصراره على انتزاعها من براثن الديمقراطيين .
هو رئيس لا يطيق الخسارة ولا يتحمّل تذوق طعم الهزيمة ، لا حدود لتمسكه بالسلطة ولا يتورع عن فعل أي شيء كي يحفظ موقعه على رأس أقوى دولة في العالمً .
في بداية العام الحالي ، كانت كل المؤشرات تقول بفوز دونالد ترمب بولاية ثانية. الوضع الإقتصادي الداخلي كان على ما يُرام مصحوباً بمجموعة من الإنجازات والإتفاقات التجارية (تعديل اتفاقية نافتا بين كل من كندا والمكسيك لصالح أميركا) والأمنية (رفع المساهمات المالية للدول الأعضاء في حلف الناتو مما وفّر أموالاً طائلة على الخزينة الأميركية ). الحزب الديمقراطي مقسوماً إلى ثلاثة أجنحة ، ليبرالي ، وسطي وتقدمي -يساري ، وتمظهر هذا الإنقسام في الإنتخابات التمهيدية للحصول على بطاقة الحزب الديمقراطي الذي تنازع على نيل ترشيحه ١٧ شخصية كان أبرزهم جون بايدن مرشح المؤسسة الحزبية التقليدية . السناتور عن ولاية ڤرمونت برني ساندرز ، المرشح التقدمي "الثوري" بالمعايير الإقتصادية والذي كان يملك رؤية أقرب للإشتراكية تقلل من سيطرة الشركات الكبرى على الأسواق وتقضي على طبقة الأثرياء في غضون سنوات عبر خطة عشرية تفرض ضرائب عالية على الأموال المكدّسة . السناتور عن ولاية مساسوتش إليزابيت وورن ، المرشحة اليسارية أيضاً ، ولكن من دون تصور فكري منظم مما جعل أفكارها أقرب إلى شعارات انتخابية آنية دون ركيزة فكرية . وهو ما برهنته وورن بدعم جو بايدن بمواجهة ساندرز بعد خروجها من السباق الرئاسي التمهيدي . فيما انسحبت السناتور عن ولاية كاليفورنيا كمالا هاريس ، المرشحة الوسطية، ذات البشرة السوداء من أصول جمايكية-هندية وهي أقرب للجناح التقليدي الديمقراطي , انسحبت وخرجت من السباق الإنتخابي بسبب عجزها عن جني التبرعات , لتعود وتدخل من الباب العريض مرشحة لمنصب نائب الرئيس .
لم يكن يتصّور دونالد ترمب أنّ "كورونا " ستفعل فعلها وتطيح بإنجازاته الإقتصادية الداخلية وتقلب موازين الرأي العام لصالح منافسه جو بايدن ، ليس حباً بالأخير وإعجاباً بسياساته ، إنما للتخلص من رئيس استخف بأرواح مواطنيه واستهتر بجائحة هي الأخطر على أميركا في العصر الحديث ، بل أخفى علمه بخطورتها حتى أودت بحياة أكثر من ٢٣٥ ألف أميركي حتى اللحظة .
ماذا ينتطر أميركا بعد الثلاثاء الكبير في ٣ نوفمبر ؟
مؤسسات استطلاعات الرأي كشفت ثغرة انتخابات عام ٢٠١٦ وصححتها بعد أن تبين لها أنّ عصب شعبية ترمب يعتمد على الشباب ما دون الدرجات الجامعية والذي شكّل رافعة انتخابية كبيرة أهدت ترمب كرسي البيت الأبيض على غير ما كان يتوقع ترمب نفسه. كذلك فقد انخفضت نسبة الناخبين المترددين او الحائرين من ٢٠٪ عام ٢٠١٦ إلى ١٠٪ وارتفعت نسبة المشاركة بشكل ملحوظ مع تقدم وقدره ١٣٪ لصالح جو بايدن من هذه النسبة . لذا فإنّ استطلاعات الرأي اليوم تُعتبر أكثر دقة وواقعية منها عام ٢٠١٦ ، ولا تجوز المقارنة بينها وبين سابقتها واعتبارها دليلاً على فوز ترمب . السبيل الوحيد كي يفوز ترمب بولاية أخرى أن تكون كل استطلاعات الرأي "كاذبة" ومزيّفة للتأثير على الرأي العام ، ليس المقصود أن تكون هذه الإستطلاعات غير دقيقة أو مخطئة في تقديراتها على غرار ٢٠١٦ ، إنما المقصود أن تكون عملية منهجية واستراتيجية إعلامية مقصودة للتأثير على الناخب الأميركي وضرب معنويات أنصار الرئيس ترمب . وإذا كانت كذلك ، فإنّ الديمقراطية الأميركية ستكون أمام مأزق أخلاقي كبير . وهذا بحث لن نستبق حدوثه ، بل سننتظر ما ستقوله نتائج الإنتخابات في الأيام القليلة القادمة .
لكنّ الحدث يبقى لما بعد إغلاق صناديق الإقتراع اليوم وما يمكن أنّ تحمله الساعات المقبلة من تطورات قد تقلب المشهد بعكس التوقعات ، أو تؤكد المصير الأسود الذي ينتظر ترمب ومن بعده الولايات المتحدة . وفي كل الحالات لن يحظى أي من الفريقين بربح سلس وواضح ، فعملية الطعون والإعتراضات لن تقتصر على الفريق الجمهوري ، بالرغم من أنّ ترمب يعتبرها عملية استراتيجية سيحتفظ من خلالها بمقعده على رأس البيت الأبيض . ستفوق الطعون والإعتراضات المُقَدمة قدرة استيعاب المحاكم مما سيؤدي إلى إبطاء ظهور النتائج الرسمية وإلى تفاعل الأحداث والمشاكل على أرض الواقع وصولاً إلى معادلة تُخَيّر الشعب الاميركي بين ترمب والإستقرار . هذه خطّة ترمب إذا لم تخالف استطلاعات الرأي الواقع . وفي كلّ الحالات يبقى سيناريو خسارة ترمب الأقسى على مستوى تداعياته الداخلية لمجرد رفض الرئيس وأنصاره فكرة الهزيمة . أمّا الإحتجاجات الشعبية وأعمال الشغب والفرض فسيكون لها الكلمة الفصل في تحديد مسار المرحلة المقبلة على مستوى الإستقرار الإجتماعي من دون إغفال نتائج انتخابات مجلسي والنواب والشيوخ . باختصار فإنّ موعد التغيير في الولايات المتحدة قد بدأ ، فأمريكا لن تعود كما كانت بعد اليوم ، وستبقى إرهاصات و تداعيات انتخابات ٢٠٢٠ تتردد في الداخل الأميركي المنقسم على نفسه بقوة لأول مرة في تاريخ الولايات المتحدة . فالرئيس ترمب لن يخرج من المعترك السياسي حتى ولو خسر كل معاركه الإنتخابية والقضائية وهو لن يرضى بأقل من السيطرة على جزء كبير من الحزب الجمهوري وصولاً لتشكيل حالته السياسية الخاصة .