تواصلت خلال الساعات القليلة الماضية الإتصالات الكثيفة الخاصة بمُعالجة العراقيل التي تحول دون إنطلاق أعمال التدقيق الجنائي بحسابات مصرف لبنان، وعُقد أكثر من إجتماع لهذا الغرض، أبرزها إجتماع في قصر بعبدا شارك فيه إضافة إلى رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون، كلّ من وزير المال في حُكومة تصريف الأعمال غازي وزني، وحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومدير شركة "ألفاريز ومارشيل" المُولجة بالتحقيق الجنائي لحسابات مصرف لبنان، دانيال جيمس(1). وتركّز البحث خلال الإجتماعات المَذكورة على أسباب عدم تسليم مصرف لبنان الشركة المَعنيّة، كل الوثائق التي طلبتها في موضوع التحقيق الجنائي. فما هي آخر المَعلومات المُتوفّرة؟.
أوّلاً: مدير شركة "ألفاريز ومارشيل" أبلغ المسؤولين المَعنيّين، أنّ شركته لا يُمكنها إنجاز مُهمّتها في حال عدم تلقّيها كامل الوثائق التي طلبتها، وأنّها ستكون مضطرّة للإنسحاب من هذه المُهمّة، في حال عدم التعاون بالشكل المُناسب معها.
ثانيًا: حاكم مصرف لبنان رياض سلامة دافع عن موقفه، بالتأكيد أنّه سلّم كل الوثائق التي يُمكنه تسليمها بحسب القانون، أي مُختلف الوثائق التي تُظهر عمليّات ماليّة خاصة بمصرف لبنان، لكنّه أحجم عن تسليم وثائق أخرى مَطلوبة خاصة بماليّة الدولة، بحجّة أنّ هذا المطلب يتعارض مع تخطّي مسألة السريّة المصرفيّة الواردة في قانون النقد والتسليف.
ثالثًا: وزيرة العدل في حُكومة تصريف الأعمال، ماري كلود نجم، إعتبرت أنّ حسابات الدولة اللبنانية لا تسري عليها مسألة السريّة المصرفيّة. وعلى خطّ مُواز، هيئة التشريع والإستشارات في وزارة العدل التي طُلب منها في الماضي القريب درس الموضوع، خلصت إلى رأي تعتبر فيه أنّ قانون الوُصول إلى المعلومات يُلغي تلقائيًا السريّة المصرفيّة عن الحسابات المَطلوب التدقيق فيها، لكنّ المُشكلة أنّ رأي هذه الهيئة هو إستشاري فقط وغير مُلزم من الناحية القانونيّة. إلى ذلك، ظهر تضارب قانوني بين من إعتبر أنّه يجوز قانونًا تسليم هذه الوثائق طالما أنّ أعلى المراجع في الدولة طلبت ذلك، ومن إعتبر أنّ قانون السريّة المصرفيّة هو قانون خاص، وبالتالي هو غير قانون الوُصول إلى المَعلومات، ما يَستوجب صُدور قانون خاص عن مجلس النوّاب، لتعديله أو لإلغائه.
رابعًا: بحسب مصادر مُطلعة عبر النشرة، إنّ الخلاف على ملفّ التدقيق الجنائي ككل، أثّر سلبًا على عمليّة تشكيل الحُكومة الجديدة وعرقل ولادتها بعد تذليل العقبات الأخرى، علمًا أنّ هذا الخلاف يتشعّب إلى العديد من الملفّات الخرى، بدءًا بأداء حاكميّة مصرف لبنان وبهويّة الحاكم نفسه، وُصولاً إلى نهج إقتصادي – مالي كامل عُمره ثلاثة عُقود.
خامسًا: بحسب تصريحات فرنسيّة(2) وكذلك بحسب مَعلومات مُتقاطعة، إنّ أيّ مُساعدات أو قروض ماليّة لن تصل إلى لبنان، قبل البدء بتنفيذ الإصلاحات المَطلوبة، ومن ضُمنها إتمام التدقيق في حسابات مصرف لبنان، لكشف أي أبواب هدر أو فساد مُحتملة.
سادسًا: من المُرجّح أنّ يتم إرجاء البتّ بهذا الملف المُعقّد والمُتشعّب إلى الحكومة الجديدة، علمًا أنّ على هذه الحُكومة المَوعودة، وضع خريطة طريق مُتكاملة لتنفيذ الإصلاحات المَطلوبة، ولإعادة التوازن إلى ميزانيّة الدولة ما بين الواردات والنفقات، وكذلك لإعادة هيكلة الديون والقطاع المصرفي، وخُصوصًا لإنجاز التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، حتى يكون الباب مَفتوحًا أمام نجاح مُفاوضات لبنان مع صُندوق النقد الدَولي، والرامية إلى تلقّي مُساعدات مالية وقروض طويلة الأجل. وخلال الساعات الماضية، وبهدف الحؤول دون إنسحاب الشركة المُكلّفة بالتحقيق الجنائي، تمّ التوافق على تمديد المُهل المُحدّدة في العقد مع وزارة المال لتسليم الوثائق لمدّة ثلاثة أشهر إضافيّة، وذلك في إنتظار إنجاز التعديلات القانونيّة المَطلوبة لتسليم كل الوثائق المَطلوبة، وتحديدًا عبر قانون مُعجّل يصدر عن مجلس النوّاب، على الأرجح.
سابعًا: كما هي الحال مع كلّ ملفّ، تنقسم الآراء في لبنان بين من يعتبر ما يحصل مُحاولة مَفضوحة من جهات سياسيّة وإقتصاديّة نافذة للتغطية على صفقاتها وسرقاتها المَوصوفة عبر عرقلة التحقيق المالي الجنائي، ومن يعتبر أنّ ما يحصل هو عبارة عن حملة إعلاميّة لتصفية حسابات سياسيّة وللنيل من جهات وشخصيّات مُحدّدة، ولإخفاء المُذنبين الحقيقيّين عمّا حصل من خسائر ماليّة! وفي الحالين، الشعب اللبناني هو المُتضرّر الأساسي من كل هذه الفوضى!.
في الخُلاصة، من الواضح أنّ التحقيق الجنائي الخاص بحسابات مصرف لبنان، مُجمّد في المرحلة الراهنة، بغضّ النظر عن العراقيل والأسباب الحقيقيّة. فهل ستتمّ مُعالجة هذا الملف بالجدّية المَطلوبة، ليس للإستجابة لمطالب المُجتمع الدَولي في هذا الصدد فحسب، بل لإعطاء اللبنانيّين إجابات شافية عمّا حلّ بأموالهم وودائعهم وجنى عمرهم أيضًا!.
(1) كما عُقد إجتماع آخر في السراي الحُكومي، إستفسر فيه رئيس حُكومة تصريف الأعمال حسّان دياب، من حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عن أسباب الإمتناع عن تسليم شركة "ألفاريز ومارشيل"، الإجابات التي طلبتها في مَوضوع التحقيق الجنائي.
(2) المَبعوث الفرنسي المُكلّف بتنسيق الدعم الدَولي للبنان، بيار دوكان، حذّر من أنّ عدم إجراء التحقيق الجنائي سيُؤثّر سلبًا على وُصول المُساعدات إلى لبنان.