مرة جديدة ينقسم الاميركيون على انفسهم في الانتخابات الرئاسية، في ما يعتبرونه هم اولاً الدليل الصحي الابرز على الديمقراطية التي يتحلون بها من جهة، والقدرة على تخطي الانقسام السياسي بسرعة كبيرة من جهة اخرى. ولكن انتخابات العام 2016، لم تنتهِ ذيولها بعد، وهو ما ظهر جلياً في الانتخابات الحالية التي لم يكن وباء كورونا السبب الوحيد لتأخير نتيجتها. لا يمكن لاحد ان يشكك في ان شخصية الرئيس الحالي دونالد ترامب هي ركن اساسي من اركان انقسام الاميركيين نظراً الى شخصيته الفريدة والقرارات غير المعتادة التي اتخذها، والمواقف الغريبة التي اصدرها، الا انه تمكن من جذب الكثيرين عبر الاغراءات الاقتصاديّة التي قدمها للاميركيين من جهة، وشدّ عصب المواطنين عبر التضييق بشكل كبير على المهاجرين القريبين جغرافياً والبعيدين، ناهيك عن خطّته المثيرة للجدل للشرق الاوسط التي أرسى قسماً منها عبر تطبيع دول عربية مع اسرائيل.
اللافت اذاً انه بعد اربع سنوات على الانقسام الحادّ الذي اصاب الاميركيين الذين احتاروا بين ترامب والمرشحة الديمقراطية هيلاري كلينتون قبل ان يفوز المرشح الجمهوري، استمر الصراع على اشده، ويحسب لترامب قدرته على الاستمرار في الصراع وبالوتيرة نفسها، رغم عوامل عدّة صبّت كلها ضدّه وابرزها: حنكة منافسه جو بايدن السياسية بسبب خبرته في هذا المجال، وباء كورونا وآثاره الكارثيّة على الاقتصاد العالمي والاميركي بطبيعة الحال، معاناة الاوروبيين وحلفاء اميركا مع الادارة الاميركية الحالية بسبب قرارات ترامب... ولكن، رغم ذلك، يبدو ان الاميركيين لم يرفضوا هذه التجربة كلياً، وحتى لو فاز بايدن بالانتخابات وبفارق مهم في الاصوات، فإنّ المسائل الخلافيّة ستبقى قائمة وبشدّة، بدليل ما بدأ يظهر في وسائل الاعلام من تشكيك بطريقة الانتخاب (وفق ما نادى به ترامب نفسه منذ ما قبل الانتخابات)، ولكن الاخطر هو الاتّهام الذي رافق ما يمكن تسميته بلوائح الشطب حيث ابرزت وسائل اعلاميّة احتساب العديد من الاصوات الاضافية، واقتراع أناس متوفين... هذه مسائل لم يكن يتمّ التوقف عندها سابقاً نظراً الى كونها قليلة، وقد تكون نادرة ايضاً خلال هذه الانتخابات، ولكنّها اعطيت اهميّة كبيرة لانّ المنافسة انحصرت في عدد من الولايات لا تتجاوز اصابع اليد، غير انها تحمل الكلمة الفصل للوصول الى البيت الابيض.
سيعاني الاميركيون حتماً من اشهر عديدة من الانقسام، قبل ان يعمدوا الى بداية اعادة توحيد الصفوف، وهو امر غير مطمئن لهم، لانّ الازمة الاقتصاديّة ستكون اكبر ولن يكون التعامل معها بالسهولة المتوقعة، فيما بات حمل السلاح واللجوء اليه في الكثير من الاحيان، ميزة مقلقة للمجتمع الاميركي المعتاد على السلاح، لكنه لم يعتد على هذه النسبة العالية من استعماله، والتي تخطت كل النسب الاخرى خلال السنوات الاربع الاخيرة وفق ما تؤكّده الاحصاءات. ولا يجب ان ننسى مشكلة اخرى القت بظلالها على الفترة الاخيرة من ولاية ترامب وهي الصراع العرقي بين البيض والسود الذي كسر السقف، وهدّد في وقت من الاوقات بعودة الحرب الاهلية، ولم يتورّع عن التعرض للتاريخ الاميركي وللمؤسسين، في سابقة هي الاخطر في هذا المجال.
كل هذه التحدّيات ستكون ماثلة وبقوّة في الآتي من الاسابيع والاشهر على الساحة الاميركية، وسيراقب الجميع ما ستقوم به الادارة الاميركيّة المقبلة من جهود لوضع الخطط الكفيلة بمواجهة هذه التحدّيات بنجاح والانطلاق منها لترتيب الشؤون الخارجيّة بعد ترتيب شؤون البيت الداخليّة، علّنا نعود الى الحقبة العادية التي لطالما اشتهرت بها الولايات المتحدة خلال وجودها في منصب "زعيمة العالم".