منذ أسابيع، يربط الكثير من اللبنانيين بين استحقاق تشكيل حكومتهم المُنتَظرة، والانتخابات الرئاسية الأميركية، التي يتعامل معها البعض وكأنّها انتخابات محلّية الطابع، من دون أن تُفهَم الأسباب الموجبة الدافعة لمثل هذا الاعتقاد الملتبس.
يذكر البعض في هذا السياق، كيف تنفّس بعض اللبنانيين "الصّعداء" يوم مدّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، في زيارته الأخيرة إلى لبنان، "مهلة" تشكيل الحكومةبموجب المبادرة الفرنسيّة، لستّة أسابيع، بعدما أدركوا أنّها تنتهي بعد "حسم" السباق إلى البيت الأبيض.
ومع أنّ الاستشارات النيابية التي أفضت إلى تكليف رئيس الحكومة السابق سعد الحريري بتشكيل الحكومة، أتبِعت بجوّ مغاير أوحى وكأنّ الأخير يخوض "سباقاً" مع الانتخابات الرئاسية الأميركية، إلا أنّ التعقيدات على الأرض أعادت سريعاً "تثبيت" الجوّ الأول.
ولعلّ خير دليلٍ على ذلك أنّ "الجنون" أو "التخبّط" الذي ساد الانتخابات الأميركية، انعكس "تخبّطاً" على خطّ الحكومة، معطوفاً على شبه "تجميدٍ" للاتصالات التي كانت نشطة مطلع الأسبوع، فأيّ رابطٍ بين الاستحقاقيْن؟ وماذا لو "تعقّدت" أكثر في واشنطن؟!.
أيّ رابط؟!
صحيحٌ أنّ الربط بين الحكومة اللبنانية والانتخابات الأميركية ليس وليد اليوم، بل سابقٌ لموعد الاستحقاق، وسابقٌ لكلّ "جنون" الحملات الانتخابية بين المرشحيْن الديمقراطي جو بايدن والجمهوري دونالد ترامب، إلا أنّ ذلك لا يعني أنّه ينطوي على أيّ منطقٍ أو واقعيّةٍ يمكن البناء عليها، كما يقرأ العديد من المراقبين.
وإذا كان لدى هؤلاء "تفسير" لوجهة النظر هذه، انطلاقاً من مبدأ "التبعيّة" اللبنانية المثبتة عبر العصور للخارج، عبر تحويل لبنان إلى ما يشبه "صندوق البريد" بين عواصم الإقليم ودوله، فثمّة من يسأل عن "التغيّر" الذي تُحدِثه هوية "سيّد البيت الأبيض" على حجم وشكل ونوع الحكومة اللبنانية، علماً أنّ الكلّ يجاهر بـ"ثابتة تاريخيّة" قوامها أنّ السياسة الخارجية الأميركية لا تتغيّر، أياً كان الرئيس والحزب الذي ينتمي إليه.
ولعلّ السؤال الأكبر من هذا يتمثّل في المسار الذي ستذهب إليه الأمور في حال تطوّر "الالتباس" الذي أحاط بالانتخابات الأميركية لأسابيع عدّة، في ضوء تلويح ترامب باللجوء إلى القضاء من أجل "حسم" النتيجة، واستحضار كثيرين لسابقة العام 2000، أو ما يصطلح على تسميته بـ"سيناريو بوش-آل غور"، حين بقيت النتيجة "غامضة" لأكثر من شهر بعد يوم الانتخابات، قبل أن تحسمها المحكمة العُليا الأميركية.
ومع أنّ "المبالغة" تبدو واضحة في مثل هذه الأسئلة، ثمّة شريحة من اللبنانيين مقتنعة بصوابيّة هذا "الترابط"، بل تذهب إلى حدّ القول إنّ هناك من أراد الاستفادة من الجوّ السياسيّ لوضع ورقة "تكليف" الحريري "في الجيب"، على أن يبدأ البحث الجدّي بالتفاصيل بعد انتهاء الانتخابات الأميركية، بحيث يتّضح من يمكنه فرض شروطه، ومن ينبغي عليه تقديم التنازلات، علماً أنّ العُقَد "المفتعَلة" التي ظهرت في الأيام القليلة الماضية، والتي لا تعكس "إرادة" حقيقيّة للتشكيل، توفّر خير دليلٍ على هذا التوجّه.
"محلية محض"!
عموماً، وعلى رغم "إيحاءات" البعض بأنّ الحكومة تسير على وقع "الألغام" الأميركية، وأنّ اللاعبين على خطّها ينتظرون اتضاح نتيجة السباق الأميركي ليبنوا عليها المقتضى المناسب حكومياً، يجزم الكثير من المراقبين بأنّ خلف مثل هذا الربط "وهماً" يبقى من نسج "خيال" أصحابه، ولا يمتّ إلى الواقع بصلة، باعتبار أنّ "التعقيدات" التي تصطدم بها الحكومة محلّية، وما محاولة تحميلها للخارج سوى "هروبٍ إلى الأمام"، لا أكثر ولا أقلّ.
ويقول هؤلاء إنّه سواء فاز ترامب بولايةٍ ثانيةٍ، بقوة التصويت أو المحكمة، أم حلّ بايدن رئيساً للولايات المتحدة، فإنّ انعكاس ذلك على تشكيل الحكومة اللبنانية "منعدمٌ"، لأنّ الإثنين "سيّان" في التعاطي مع لبنان، فضلاً عن كون "الشرط الدائم" لإدارة ترامب بإبعاد "حزب الله" عن الحكومة قد تمّ "تجاوزه"، في وقتٍ يبدو جميع المعنيّين بالشأن الحكوميّ وقد سلّموا بـ"حقّ" الثنائيّ الشيعيّ، ومن ضمنه "حزب الله"، بتسمية وزرائه، تماماً كما تمّ التسليم مسبقاً، وبمبادرةٍ "حريريّة"، بإبقاء حقيبة "المالية" في يد "الثنائيّ" أيضاً، رغم كلّ "الفيتوهات" التي قيل في مرحلةٍ ما، إنّ مصدرها خارجيّ، وأميركيّ تحديداً.
وحتى لو صحّت "فرضيّة" وجود "رهان" لدى البعض على الأميركيّين لتغيير الأجواء الحكوميّة، رغم أنّه رهان "خاب" في معظم المحطّات السابقة، يقول البعض إنّ "العقدة الفعليّة" تبقى داخليّة، ومتّصلة بمسألتين، أولهما "النكايات الشخصية" بين الحريري ورئيس "التيار الوطني الحر" الوزير السابق جبران باسيل، ورفض الأول تقديم أيّ "هدايا مجانية" للثاني، ما يدفع الأخير إلى "تعقيد" مهمّته، في حين ترتبط الثانية بـ "الوعود المضخّمة" التي قدّمها الحريري قبيل التكليف، والتي أدرك متأخّراً، "عجزه" عن الوفاء بها.
"سيّد... حرّ... مستقلّ"!
قد تكون الانتخابات الأميركية ثبّتت على الأرض فعلاً، ما قيل كثيراً في الأسابيع السابقة لها، من كونها "مصيريّة ووجوديّة"، بل ربما "الأهمّ والأخطر" في تاريخ الولايات المتحدة الحديث، نظراً لكلّ "الغموض" الذي أحاط بها، وصولاً إلى نتائجها، وسط تصاعد "التشكيك" بها، والحديث المتزايد عن "تزويرٍ" وما شابه ذلك.
وقد تحتاج هذه الانتخابات "المجنونة"، إن جاز التعبير، للكثير من الوقت ليُطوى فصلها، بعدما وضعت بالنسبة إلى البعض، "الديمقراطية الأميركية المتجذّرة" على المِحَكّ، وبانتظار نضوج صورة ما سيعقبها من إجراءاتٍ قانونيّةٍ وغير قانونيّةٍ، علماً أنّ البعض ذهب إلى حدّ التلويح بشبح "الحرب الأهليّة" في الداخل الأميركي.
لكنّ كلّ ما سبق، على أهميته وحساسيّته، لا يقدّم أيّ "تبريرٍ" لأيّ "تقاطعٍ" بين الانتخابات الأميركيّة، واستحقاقٍ لا يفترض أن يكون داخلياً فحسب، بل بديهياً وبسيطاً، كتأليف حكومةٍ في أيّ بلدٍ من البُلدان، علماً أنّ أيّ أثرٍ لمثل هذا الربط لا يُعثَر عليه إلا في لبنان، البلد الذي يتباهى قادته بأنّه "سيّدٌ وحرٌّ ومستقلّ".
صحيحٌ أنّ "المؤامرات" قد تكون موجودة، وصحيحٌ أنّ لبنان تعرّض ولا يزال إلى "حصارٍ" دوليّ، خصوصاً في أيّام حكومة حسّان دياب، لكنّ الواضح أنّ "الخارج" تحوّل إلى مجرّد "ذريعة" يتلطّى البعض خلفها، فيما المطلوب "تفاهم" سريع على تشكيل "فوري" للحكومة، ومن دون إبطاء، للتصدّي للواقع "الكارثيّ" المحدق بالبلاد!.