جميع الذين يتابعون الانتخابات الأميركية، وعمليات فرز الأصوات، اعتقدوا في البدايات انّ الرئيس الأميركي دونالد ترامب في الطريق لإحداث المفاجأة مرة أخرى بالفوز على منافسه نائب الرئيس السابق جو بايدن، وأنّ استطلاعات الرأي التي كانت ترجح فوز بايدن بفارق عشرة بالمئة كانت مخطئة وغير صادقة، ولا تعكس الواقع.. لكن هذا الاعتقاد كان مبنياً على فرز أصوات المقترعين في مراكز الاقتراع، والذين تمّ تقديرهم بـ خمسين مليون مقترع، فيما الذين صوّتوا عبر البريد في الأيام السابقة على يوم الانتخابات بلغوا مئة مليون، وكان معروفاً أنّ فرز أصواتهم سيحتاج إلى بضعة أيام.. وانّ أغلب هؤلاء يؤيدون بايدن.. لهذا عندما بوشر بعملية فرز أصوات البريد بدأت النتائج تتبدّل في الولايات الحاسمة والمتأرجحة، التي نام ترامب في اليوم الأول من فرز أصوات الصناديق فيها مطمئنا على تقدّمه وفوزه بولاية رئاسية ثانية، فإذا به في اليوم التالي بدأت النتائج تتبدّل، وتظهر تقدّم بايدن وفوزه في بعضها مثل، ويسكونس وميشيغان، فيما تقدّم في ولاية أريزونا الجمهورية تاريخياً، وردم الهوة في بنسلفانيا والنجاح في التقدّم على ترامب في فرز الأصوات الأخيرة من المصوّتين عبر البريد، وهو ما دفع ترامب إلى المطالبة بوقف عدّ هذه الأصوات… وبدأ فريق حملته برفع الدعاوى القانونية التي تشكك بعمليات الفرز وتطالب بإعادة فرز الأصوات في بعض الولايات وعدم احتساب أصوات البريد التي عدّلت النتيجة لمصلحة بايدن، في حين أيّد فريق ترامب استمرار فرز الأصوات في أريزونا لأنها تحقق له تقدّماً وتقلّص الفارق مع بايدن..
ومع كلّ يوم بدأت النتائج تظهر التقدّم المستمرّ لـ بايدن وتحقيقه مفاجأت جديدة، مثل تقدّمه في جورجيا، مما أعاد رسم المشهد بما يقترب من توقعات استطلاعات الرأي… الأمر الذي أعاد طرح الأسئلة عن العوامل التي أدّت إلى هذه النتيجة التي صدمت ترامب وحزبه الجمهوري، الذي بات قلقاً أيضاً من احتمال خسارة الأغلبية في مجلس الشيوخ وسيطرة الديمقراطيين عليه ما يجعلهم، إذا ما تمكّنوا من الفوز بمقعدي جورجيا، يسيطرون على كلّ مفاصل السلطتين التنفيذية في البيت الأبيض، والتشريعية في مجلسي النواب والشيوخ، وبالتالي إقرار القوانين التي أعاق الجمهوريون الموافقة عليها، واستطراداً تمكين الرئيس بايدن من تنفيذ سياساته لإصلاح ما أصاب أميركا من تصدّعات وأزمات في الداخل من ناحية، ومن تراجع مكانة أميركا ودورها القيادي على المستوى الدولي من ناحية ثانية…
فما هي العوامل التي مكّنت بايدن من تحقيق التقدّم والفوز بولايات متأرجحة واختراق ولايات جمهورية، وتحقيق تقدّم على مستويين…
مستوى المجمع الانتخابي، من خلال الحصول على عدد من أصواته يتجاوز 270 صوتاً المطلوبة للفوز بالرئاسة…
مستوى ثان، حصد أغلبية على الصعيد الوطني تتجاوز الأربعة ملايين صوتاً حتى تاريخه، وهو الأمر الذي فاق ما حصلت عليه هيلاري كلينتون في انتخابات 2016 التي تقدّمت فيها على ترامب بثلاثة ملايين صوت، لكنها خسرت على مستوى أصوات المجمع الانتخابي…
العوامل التي أدّت إلى هذه النتائج الصادمة للجمهوريين، يمكن تلخيصها بما يلي…
العامل الأول، كورونا، لقد شكل انتشار فايروس كورونا على نطاق واسع في الولايات المتحدة وتحوّلها إلى البلد الأول في العالم على مستوى عدد الإصابات والوفيات، شكّل العامل الأساسي الذي أسهم في تراجع شعبية ترامب، الذي يتحمّل المسؤولية عن ذلك لأنه لم يستمع الى الخبراء في المجال الصحي لأخذ الإجراءات العاجلة، واستهتر في ذلك واعتبر كورونا أقلّ خطراً من الانفلونزا.. الأمر الذي فاقم من انتشار الوباء، وكشف معه عجز المؤسسات الطبية والاستشفائية الأميركية عن احتوائه…
العامل الثاني، الاقتصاد، أدّى انتشار فايروس كورونا وعدم المسارعة الى مواجهته واحتوائه والسيطرة عليه كما فعلت الصين، الى انعكاسات سلبية على الاقتصاد الأميركي الذي أصيب بالشلل، وتراجعت معه معدلات النمو بنسب كبيرة وأصبحت سالبة، حيث بلغ التراجع في الفصل الأول من هذه السنة نحو 30 بالمئة، مما أدخل الاقتصاد في أزمة من الركود تفوق أزمة 1929…
العامل الثالث، أدّى انتشار كورونا وركود الاقتصاد إلى نتائج سلبية على الوضع الاجتماعي، حيث زادت معدلات البطالة التي تراجعت نسبتها كثيراً في السنتين الأوليتين من حكم ترامب، حيث بلغت عشية الانتخابات نحو 10 بالمئة، فيما ارتفعت أعداد الفقراء إلى ما فوق الخمسين مليون… بينما الطبقات الوسطى والصغرى تدهور وضعها المعيشي.. في حين أنّ السياسة الضرائبية التي اعتمدها ترامب كانت لمصلحة الأثرياء، الأمر الذي زاد من حدة التفاوت الاجتماعي..
العامل الرابع، التمييز العنصري، أفضت سياسة ترامب العنصرية ودعمه التطرف وتغطيته ممارسات الجماعات المتطرفة ضدّ السود وإقدام الشرطة على قتل مواطنين سود بدم بارد، أدّى ذلك إلى انعاش سياسة التمييز العنصري وإحداث انقسام حادّ في المجتمع الأميركي من ناحية، وانحياز الكثير من الأميركيين إلى جانب المندّدين بهذه السياسة العنصرية… فالى جانب خسارة الجمهوريين أيّ تأييد لهم وسط الأفارقة السود، فقدوا أيضاً تأييد الكثير من الأقليات، ونسبة من السكان البيض خصوصاً من الفئات الشبابية المتعلمة، والتي ترفض مثل هذه السياسة العنصرية…
العامل الخامس، عزلة أميركا في العالم وتراجع دورها القيادي.. على الرغم من أنّ هذا العامل ليس من العوامل التي تلعب دوراً أساسيا في تقرير توجهات عامة الأميركيين في الانتخابات، إلا أنه كان له تأثير على مواقف النخبة التي شعرت بأنّ مكانة أميركا قد تراجعت كثيراً نتيجة سياسات ترامب غير المتزنة بالانسحاب من الاتفاقيات الدولية ومساهمات أميركا في مؤسسات دولية وتوتير العلاقات مع حلفاء أميركا الأوروبيين.. وهو ما أدّى إلى عزلة أميركا في مجلس الأمن، خلال التصويت المتكرّر في المجلس على العديد من المشاريع والقرارات التي تقدّمت بها واشنطن..
لقد أدّت هذه العوامل إلى إضعاف شعبية ترامب والجمهوريين، حتى في وسط قواعدهم التقليدية، وتقدّم بايدن والديمقراطيين ونجاحهم في إحداث خرق في قواعد الجمهوريين.