في نهاية المطاف سقط دونالد ترامب، وقد يكون هذا العنوان الحقيقي لنتيجة الانتخابات الرئاسية الاميركية اكثر منه فوز جو بايدن. لقد تجمّع اخصام الرئيس الاميركي الأكثر جدلية في التاريخ الاميركي، وسدّدوا له الضربة القاضية ولو بشق النفس. لكن الرجل لن يسلّم بسهولة، ولو انّه يدرك ضمناً بأنّ ما كُتب قد كُتب، وانّه في مطلع السنة المقبلة سيخرج من البيت الابيض.
وبالتالي، فإنّ مهمة الرئيس الاميركي المنتخب جو بايدن لن تكون سهلة، بل صعبة ومعقّدة، لأنّه اولاً سيكون محكوماً بالعمل مع مجلس للشيوخ يسيطر عليه الجمهوريون، فيما كان باراك اوباما يعمل مع كونغرس يقع تحت سلطة الديموقراطيين.
وثانياً، لأنّ ترامب لن يتقاعد على الارجح، وهو لن يسلك المسار التقليدي لكل الرؤساء الذين سبقوه وخرجوا بهدوء من البيت الابيض لينتقلوا الى التقاعد السياسي. ذلك أنّ ترامب ارسل اشارات غامضة، توحي بأنّه سيتابع حركته السياسية، بحيث يعمل كمراقب شرس وناقد غزير المواقف، لسياسة خليفته في البيت الابيض. والاهم أنّه سيحاول تنظيم ورعاية الجيل الجديد من الجمهوريين. وهنا سيصطدم من دون شك مع اركان الحزب الجمهوري، الذي بدأ يتوجس منه، والذي اندفع رجالاته لتهنئة الرئيس الاميركي الجديد، عملاً بالتقاليد الاميركية وانتظاماً لمسار تناوب السلطة وانتظام عمل المؤسسات. ذلك أنّ ترامب ومن خلال نجله، صرّح عبر الاعلام، مشتكياً من غياب مساندة الحزب الجمهوري له في موقفه المشكّك بنزاهة فرز اصوات المقترعين. وفي الواقع، سيعمل ترامب على اثبات أنّه سيبقى يمثل جزءاً لا بأس به من الروح الاميركية.
وقد يكون اركان الحزب الجمهوري متوجسين من سعي ترامب لتغليب حضوره وشخصيته على الحزب، وبالتالي استيراد النموذج السائد في العالم الثالث، حيث الشخص اكبر واهم من الإطار الحزبي نفسه.
المهم انّ بايدن الذي يرث وضعاً داخلياً صعباً ومنقسماً، سيركّز اولويته السياسية على اعادة لحمة الاميركيين، وهو ما قاله بوضوح في خطاب النصر.
لكن سلوك ترامب المتطرّف سيُلزم اولاً الحزب الجمهوري بالتشدّد في مراقبة سياسة بايدن، من خلال مجلس الشيوخ، وثانياً سيصعّب على بايدن القيام بانعطافة واضحة وسريعة في سياسته الداخلية.
ويتردّد في الاوساط الديبلوماسية الاميركية، انه سيجري محاصرة ترامب بعد مغادرته البيت الابيض، بإحياء العديد من الدعاوى القضائية المرفوعة ضدّه في مراحل سابقة مختلفة، والتي سيكون ابرزها من نصيب المدّعية العامة لنيويورك.
في هذا الوقت، سيستغل ترامب فترته الرئاسية المتبقية لاتخاذ قرارات تعرقل سياسة بايدن. ولا شك انّه سيندفع في الاعلان عن عقوبات جديدة، قد تكون اكثر قساوة مما سبقها، ووفق بعض المعلومات فإنها ستكون أسبوعية تقريباً تطال إيران و»حزب الله» وحلفاءهما وذلك لغاية تسليمه موقعه في 20 كانون الثاني المقبل.
في المقابل، سيعمل بايدن على البدء بالتحضير لتعيينات الفريق الذي سيتولّى ادارة البلاد. وتردّد انّ مستشاره الابرز للشؤون الخارجية انطوني لينكن سيتولّى مسؤولية مستشار الامن القومي، وهو الموقع الاكثر اهمية في الادارة الاميركية.
والتغيير الذي طال البيت الابيض سيلفح الشرق الاوسط بكل تأكيد. فاليمين الاسرائيلي تسوده الخيبة، لشعوره بأنّه خسر مشروع ضمّ اجزاء من الضفة الغربية. ورئيس الحكومة الاسرائيلية بنيامين نتنياهو قلق، وهو المدرك انّ اسرائيل ذاهبة الى انتخابات رابعة في آذار المقبل على الأرجح، قد تؤدي الى سقوطه، في ظلّ غياب صديقه وحليفه ترامب.
فترامب الذي تأخّر في تهنئة بايدن، كان قد طلب من وزرائه عدم إعطاء اي موقف، طالما لم تظهر النتائج الرسمية للانتخابات الاميركية. لكن هنالك من يعتقد ايضاً بأنّ ترامب خاب أمله من تردّد نتنياهو ووقوفه في المنطقة الرمادية. فهو لم يعلن دعمه العلني لترامب، وهو ما كان يحتاجه لاستمالة بعض اصوات اليهود الاميركيين.
والسؤال الاهم يبقى حول ما ستؤول اليه العلاقة الاميركية - الايرانية. ففي الواقع، كان الديموقراطيون يتواصلون مع الايرانيين من خلال وزير الخارجية الاميركية السابق جون كيري، الذي كان واكب ولادة الاتفاق النووي. ولم يعد سراً انّ كيري التزم بالعودة الى الاتفاق في حال فوز بايدن.
لكن على بايدن اولاً ترتيب بيته الداخلي، وخصوصاً مع الجمهوريين. وقد تشكّل الفترة الفاصلة عن الانتخابات الرئاسية الايرانية في 20 حزيران المقبل، فسحة زمنية لإنجاز الترتيبات المطلوبة.
فالعودة الى الاتفاق النووي لن تكون اوتوماتيكية، ذلك أنّ ثمة تعديلات لا بدّ من إدخالها. فإيران من جهتها ستطلب التزاماً اميركياً رسمياً اقوى، ما يمنع الفريق الذي سيأتي بعد بايدن من التنصّل من الاتفاق، كما حصل مع ترامب. وربما ستطلب ايران ما يشبه المعاهدة، وهذا تعديل ليس بالسهولة المطلوبة.
أما بايدن، فهو سيطرح الاتفاق، ولكن انطلاقاً من الواقع الذي فرضه ترامب، والذي حقق من خلاله نقاطاً لصالح واشنطن.
ولذلك، ثمة من يعتقد انّ اعلان بعض العقوبات الجديدة قد يكون مفيداً لبايدن، مرة لتليين شروط ايران، ومرة اخرى للقول لأخصامه في الداخل الاميركي بأنّه ليس ابداً متساهلاً مع الايرانيين.
كذلك، فإن الثابت بأنّ اسعار النفط ستشهد تراجعاً اضافياً، بعد ما اصاب الاقتصاد العالمي بسبب فيروس «كوفيد-19». وهذا ما سيؤثر الى حد كبير على انظمة وبلدان الشرق الاوسط، التي تعتمد على المدخول النفطي بشكل اساسي، ما قد يفتح باب الخطر امام استقرار العديد من هذه الانظمة، مع تصاعد الاضطرابات الداخلية ونمو التيارات المتطرفة، والتي ستجد في التراجع الاقتصادي بيئة مثالية للتغلغل. وقيل، انّ العراق قد يكون من البلدان التي ستتأثر سلباً بهذا الواقع، خصوصاً انّه يعيش تحدّيات سياسية مستمرة.
أما لبنان، والذي يعيش انهياراً اقتصادياً خطيراً، مع توسّع الفجوة بين الشارع والطبقة السياسية، التي يتهمها بالفساد والتسبّب بالإفلاس، فإنّ برنامج الغذاء العالمي، والصادر عن الامم المتحدة، وضعه الى جانب اربع دول اخرى في خانة الدول التي تواجه الجوع الحاد الى حدّ المجاعة.
ورغم هذه المخاطر، فإنّ الطبقة السياسية ما زالت عاجزة عن انتاج حكومة، بسبب الصراع على المحاصصة والنفوذ، في إطار الحسابات السياسية والانتخابية، لا المسؤوليات المفترضة تجاه خطر المجاعة. وهذه الذهنية استدعت كلام الرئيس الفرنسي حول احتقاره للطبقة السياسية اللبنانية.
وثمة قناعة لدى المهتمين بالوضع اللبناني، بأنّه لن تكون هنالك فوارق كبيرة بين ادارتي بايدن وترامب تجاه لبنان.
ومنذ ايام، اعلنت واشنطن عن عقوبات على رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، وفق «قانون ماغنيتسكي»، بتهم الفساد والتعاطي مع «حزب الله». وخلال زيارته الاخيرة الى لبنان، قال مساعد وزير الخارجية الاميركية ديفيد شينكر امام حلقة ضيّقة، بأنّ عقوبات «ماغنيتسكي» حول الفساد هي اصعب على الدولة الاميركية، لأنّها ملزمة بتأمين اثباتات دافعة، قادرة على مواجهة الشخص المقصود، عندما سيتقدّم بشكوى رفضاً للقرار.
وهذه الإثباتات تأخذ شهوراً عدة من البحث، قبل ان تنال موافقة اربع دوائر قرار اميركية هي: وزارة العدل، وزارة المال، وزارة الخارجية والامن القومي، طبعاً إضافة الى فريق من المحامين يتولون التدقيق المركّز، كي لا يجري نقض القرار بعد تقديم الشكوى كما هو متوقع.
لكن، وبمعزل عن مضمون القرار، فإنّ توقيته جاء في الإطار السياسي، والمرتكّز على تحجيم نفوذ «حزب الله» في لبنان، وهو ادّى قبل ذلك الى فرض عقوبات على الوزيرين السابقين يوسف فنيانوس وعلي حسن خليل.
لكن ثمة جوانب غير ظاهرة لا بدّ من التمعن فيها. فخلافاً للعادة، بمفاجأة الشخص المتهم او في احسن الاحوال ابلاغه قبل 24 ساعة فقط، جرى هذه المرة إحاطة باسيل رسمياً قبل حوالى الاسبوعين، ولو بحجة امهاله وقتاً للخروج من علاقته مع «حزب الله». ذلك انّ واشنطن تدرك بأنّ هذه المهلة ستسمح لباسيل بترتيب امره وتفادي سلبيات القرار. ما يعني عدم توجيه ضربة قاسية له، كما حصل مع غيره، وبالتالي عدم قطع كامل الخطوط.
كذلك، فإنّ الذهاب لرفع شكوى بوجه قرار العقوبات، ستواكبه خطوط جانبية تفاوضية.
في المقابل، كان واضحاً في كلمة باسيل بالأمس، الإشارات الايجابية العديدة، خصوصاً تجاه الادارة الاميركية المقبلة.
ذلك انّ ادارة بايدن، ولو اختلف اسلوبها الديبلوماسي عن اسلوب ادارة ترامب الهادر، انما تتقاطع معها في تطابق الاهداف:
ترسيم الحدود البحرية، وثروة لبنان في الغاز البحري وتثبيت وامساك الحدود البرية اللبنانية كاملة مع اسرائيل وسوريا، واعادة صياغة سلطة سياسية جديدة وفق توازنات ملائمة.
وخلال احدى جولاته الانتخابية، وعد بايدن احد النافذين في الجالية اللبنانية، بإيلاء لبنان الذي يعرفه جيداً، اهتماماً خاصاً، والسعي لإنقاذه من واقعه المرعب.
فهل هو التزام جدّي أم وعد انتخابي؟ الجواب للاشهر المقبلة.