لطالما وصفت مصر "سدّ النّهضة" الّذي تمضي إِثيوبيا في تجهيزه، بأَنّه يُشكّل تهديدًا وجوديًّا بالنّسبة إِليها، لأَنّها تُعاني من ندرةٍ مائيّةٍ بحسب تصنيف البنك الدّوليّ. وتعتمد مصر تاريخيًّا، وفي شكلٍ أَساسيٍّ على مياه نهر النّيل، في تلبية 95 في المئة مِن احتياجاتها المائيّة، إِذ تحصل سنويًّا على حصّةٍ مِن مياه النّيل تُقدّر بـ55 مليارًا ونصف المليار مِن الأَمتار المُكعبة مِن المياه. وتخشى مصر من أَنّ يُؤَثّر ملء السّدّ، في حصّتها مِن المياه. ففي السّنوات الّتي يكون فيها مُعدّل الأَمطار عاديًّا أَو فوق المُتوسّط، لا يُتوقّع أَن تكون ثمّة مُشكلةٌ، ولكنّ القلق يبقى في شأن ما قد يحدث خلال فترات الجفاف الّتي قد تستمرّ سنواتٍ.
وأَمّا إِثيوبيا، فتُعلن أَنّ السّدّ، ضرورةٌ وجوديّةٌ، فإِذا جرى تشغيله بكامل طاقته، فسيكون المحطّة الأَكبر أَفريقيًّا لتوليد الكهرباء. وسيُوفر الكهرباء لـ65 مليون إِثيوبيّ. وبالتّالي فهو ضروريٌّ لنُمُوّ البلاد اقتصاديًّا ولتوفير الطّاقة.
تعقيداتٌ مُتعدّدة
وغالبًا ما يكُون سبب تنامي الحاجة إِلى المياه، عائدًا إِلى النُّموّ السُّكّانيّ. إِلى ذلك فإِنّ ملفّ استخدام مياه النّيل ملفٌّ مُعقّدٌ، بسبب تداخل القوانين الدّوليّة في شأن سُبل توزيع مياه نهرٍ يعبُر بلدانًا عدّة... كما وثمّة تعقيدٌ تاريخيٌّ أَيضًا مع إِبرام الكثير مِن الاتفاقات المائيّة... وما يزيد من التّعقيدات الخطب الرنّانة عن "الحُقوق الّتي لا يُمكن التّفريط فيها" من الطّرفَيْن، وكذلك موازين القوى بين دُوَل حوض النّيل.
لمحة جُغرافيّة-تاريخيّة
ترِدُ مياه نهر النّيل مِن أَثيوبيا، حيث ينبع النّيل الأَزرق، ومِن بوروندي، حيث ينبع النّيل الأَبيض. يلتقي النّيلان في الخُرطوم، حيث يزوّد الأَوّل حوالي 90 في المئة مِن إِجماليّ مياه النّهر.
ومُنذُ بداية القرن العشرين، أَعلنت مصر حقوقها في مياه النّهر عبر اتفاقاتٍ عدّةٍ، وهي مسأَلة جدّ جوهريّةٍ، بالنّظر إِلى أَنّ البلد يعتمد بنسبة 97 في المئة على مياه النّيل، على عكس بعض بلدان حوض النّيل الأُخرى، مثل إِثيوبيا الّتي تهطل فيها الأَمطار بمُعدّلاتٍ عاليةٍ.
وفي العام 1959، وقّعت القاهرة مع السُّودان الّذي حصل على استقلاله في 1956، اتفاقًا يُنظّم اقتسام المياه، تحصل مصر بموجبه على 55.5 مليار مترٍ مُكعبٍ بينما يحصل السُّودان على 18،5 مليارًا، كَوْن المليارات العشرة الباقية من ماء النّهر تضيع بالتّبخُّر. وعلى رُغم مُطالبات دول حوض النّيل الأُخرى، بقيت الأُمور على ما هي حتّى التّسعينيّات، وبقيت مصر مُهيمنةً على النّيل.
ويبلغ ارتفاع سدّ النّهضة الّذي سيسمح بإِنتاج 6450 ميغاواط من الكهرباء، 175 مترًا، ويبلغ طوله 1800 متر، وسعة تخزينه 67 مليار مترٍ مكعبٍ، أَي ما يُعادل تقريبًا التّدفُّق السّنويّ للنّهر. وقد اتّخذت أَثيوبيا قرار بناء السّدّ من طرفٍ واحدٍ، وبدأَته شركةٌ إِيطاليّةٌ في2013، وقد أُنجز ثلثاه وَفق تصريحات أَديس أَبابا.
الانفجار السُّكّانيّ
ولقد شهدت المنطقة انفجارًا سُكّانيًّا، ففي العام 1959، كان عدد سُكّان مصر 25 مليونًا، وسُكّان السُّودان 11 مليونًا، وإِثيوبيا 27 مليونًا. وفي 2016 بلغ عدد السُّكّان بالتّرتيب، 95 مليونًا، و40 مليونًا (مِن دون احتساب جنوب السُّودان الّذي استقلّ في 2011)، و102 مليونًا في إِثيوبيا.
وكذلك فقد عاش باقي بلدان حوض النّيل تضخُّمًا مُشابهًا، إِضافةً إِلى تكثيف الرّعي الّذي يُؤمّن للسُّودان وإِثيوبيا نصف نواتجهما الإِجماليّة مِن الزّراعة، ما يُمثّل بالتّالي استهلاكًا مُتزايدًا للمياه.
وفي المُقابل، تنخفض مُعدّلات هُطول الأَمطار مُتأَثّرةً بالاحتباس الحراريّ، كما ويتسبّب التّوسُّع الحضريّ السّريع بتزايد استهلاك المياه...
مشروعٌ سياسيٌّ
وسط هذه الظُّروف البالغة التّعقيد، أَطلقت إِثيوبيا مشروعها لتشييد "سدّ النّهضة" على النّيل الأَزرق، ليكون أَضخم سدٍّ في أَفريقيا، بعدما كان ذلك الموقع محجُوزًا للسّدّ العالي في أَسوان الّذي بنته مصر في العام 1960، بمُساعدة سوفييتيّة وقد أَصبح واجهة النّظام النّاصريّ.
وفي هذا الإطار قال هاني رسلان، الباحث في "مركز الأَهرام للدّراسات السّياسيّة والاستراتيجيّة"، إِنّ المشروع الأَثيوبيّ "هو مشروعٌ سياسيٌّ قبل كُلّ شيءٍ، يسعى إِلى تعزيز اللُّحمة الوطنيّة في بلدٍ تحتكر السُّلطة فيه أَقليّةٌ صغيرةٌ (التّغراي)، فتُواجه مُعارضاتٍ كثيرةٍ، وبخاصّةٍ مِن الأَكثريّة العرقيّة (شعب أورومو)... وإِذا ما توتّرت العلاقات بين الفريقَين، واندلعت شرارات الصّراع المُحتدم، فإِنّ أَديس أَبابا تُسارع في اتّهام مصر بالتّحريض... لذا تسعى إِثيوبيا إِلى لمّ شمل شعبها من خلال توفير فرص العمل، وإِلَّا فما الهدف مِن إِنتاجها أَكثر من 6000 ميغاواط من الكهرباء، في الوقت الّذي لا يكاد يبلغ استهلاك إِثيوبيا مع كُلّ جيرانها... 800 ميغاواط؟.
بيد أَنّ النّظام الإِثيوبيّ قد رهن أَيضًا هيبته وسُلطته بسدّ النّهضة، فحرّك كُلّ موارده الدّاخليّة، وفرض المُشاركة الإِجباريّة على السُّكّان. حتّى أَنّ بعض المصريّين باتوا يعتبرون أَنّ إِثيوبيا "تتصرّف كتُركيا"... في وقتٍ توتّرت العلاقات بين مصر وتركيا، مُنذُ وصول عبد الفتّاح السّيسي إِلى السُّلطة في 2013، ولكون الرّئيس التُّركيّ رجب طيّب إِردوغان بات مُتّهمًا بدعم الإِخوان المُسلمين، أَلدّ أَعداء النّظام المصريّ!. وأَمّا سياسة تركيا المائيّة، فتقوم أَيضًا على الأَطماع بحصّةٍ مائيّةٍ تتجاوز حقّها القانونيّ مِن المياه الإِقليميّة. فقد نفّذت تركيا "مشروع جنوب شرق الأَناضول"، و"سدّ أَتاتورك الكبير" الّذي جفَّف جُزئيًّا نهرَي الفُرات ودجلة، وحرم سوريا والعراق من موارد مائيّةٍ ضخمةٍ. وللحديث صلة...