كما أتت العقوبات على الوزيرين السابقين علي حسن خليل ويوسف فنيانوس في عزّ "المبادرة الفرنسية"، ضاربةً جهود السفير مصطفى أديب لتأليف الحكومة، جاءت العقوبات على الوزير السابق جبران باسيل، في ذروة المفاوضات لتشكيل حكومة برئاسة سعد الحريري.
وإذا كانت العقوبات على حسن خليل وفنيانوس "أطاحت"، كما يعتقد كثيرون، بمهمّة أديب عن بكرة أبيها، وشكّلت السبب المباشر لاعتذار الأخير، بعدما "فرملت" الاندفاعة الحكوميّة إلى حدّ بعيد، فإنّ علامات استفهام تُطرَح اليوم عن تأثير العقوبات على باسيل على الملفّ الحكوميّ.
وفي حين اكتفى باسيل نفسه بالحديث عن ضرورة أن يكون الردّ على العقوبات بالإسراع بتأليف الحكومة، لا العكس، فإنّ بوادر الاتجاه "النقيض" قُرئت من خلف سطور مؤتمره الصحافي، الذي كان التصويب فيه على الحريري واضحاً، ولو مضمراً.
ولعلّ الدليل الأكبر على ذلك تمثّل في التسريبات التي تكثّفت في الساعات الماضية، حول عودة الأمور إلى "النقطة الصفر"، ما يدفع إلى التساؤل جدّياً عمّا إذا كان من شأن العقوبات على باسيل "تفجير" الحكومة الموعودة، بمُعزَلٍ عن النوايا، المُعلن منها والمُضمَر.
توقيت "مشبوه"؟!
منذ أسابيع طويلة، يُحكى الكثير في الإعلام عن "عقوبات مفترضة" على باسيل، من دون أن تجد طريقها إلى أرض الواقع، حتى أنّ العقوبات على حسن خليل وفنيانوس قبل أسابيع صُنِّفت، برأي كثيرين، على أنّها "رسالة إنذار" لباسيل نفسه، قبل المرجعيتين الحزبيتين للوزيرين السابقين، اللذين لم تتأثر العلاقة بهما كثيراً أصلاً.
لكنّ "توقيت" الإفراج عن العقوبات الأسبوع الماضي بدا "مشبوهاً" لكثيرين، ربطاً بدلالاته الداخلية والخارجية على حدّ سواء، خصوصاً أنّه جاء في "غمرة" الانتخابات الأميركية "المصيرية"، وعلى وقع الشكوك حول "الانتقال السلس" للسلطة من الرئيس الحالي دونالد ترامب إلى المُنتخَب جو بايدن، ما جعل البعض "يسخر" من الأمر، قائلاً إنّ بال ترامب كان مشغولاً بباسيل، في عزّ "الهزيمة".
أما الدلالات الداخليّة، فقد تكون أكثر أهميّة، باعتبار أنّ العقوبات جاءت في لحظةٍ داخليّةٍ حَرِجة، على وقع استشارات تأليف الحكومة، التي كانت قد اصطدمت أصلاً بما يكفي من معوّقات وضغوطٍ، على رغم إصرار المعنيّين بالملف على إحاطته بـ"التكتّم"، معطوفاً على الإيحاء المتكرّر بـ"تقدّم" لم يُرصَد عملياً سوى في البيانات المقتضبة لمكتب الإعلام في رئاسة الجمهورية، في أعقاب كلّ لقاءٍ يجمع رئيسي الجمهورية والحكومة المكلَّف.
ومع أنّ الأميركيّين نفوا أيّ علاقة بين العقوبات المستجدّة على باسيل، وملفّي الانتخابات الأميركية والحكومة اللبنانية على حدّ سواء، "مبشّرين" بعقوباتٍ أخرى ستدخل حيّز التنفيذ في المرحلة المقبلة، إلا أنّ "طيف" الحكومة حضر واضحاً خلفها، علماً أنّ هناك من قرأ في العقوبات تعبيراً عن "امتعاض" أميركي واضح من الآلية التي تُشكَّل فيها الحكومة، وفقاً لآلية "المحاصصة" التقليدية، من دون أيّ تغييرٍ يُذكر في الشكل أو المضمون.
إلى الخلف دُر!
منذ الإعلان عن العقوبات على باسيل يوم الجمعة الماضي، كثرت الاجتهادات والتفسيرات المتناقضة، في محاولةٍ لاستقراء التأثيرات المُحتمَلة على صعيد الملفّ الحكوميّ، بين قائلٍ بأنّ تأثيرها سيكون سلبيّاً محضاً، عبر دفع الوزير باسيل إلى المزيد من "التشدّد"، وقائلٍ بأنّها على العكس، ستؤدّي إلى "التسريع" بتشكيل الحكومة، بدفعٍ من باسيل نفسه.
وإذا كان رئيس "التيار الوطني الحر" حاول، في مؤتمره الصحافي، الإيحاء بتبنّي وجهة النظر الثانية، حين قال إنّ الردّ على العقوبات ينبغي أن يكون بالإسراع بتأليف الحكومة، فإنّ مضمون خطابه أوحى، على نقيض ذلك، بغلبة الاتّجاه الأول، خصوصاً أنّ رسائله "النارية" التي طالت رئيس الحكومة المكلف، من دون تسميته، لم تكن عصيّة على الفهم.
ومع أنّ بعض "المتحمّسين" من المقرّبين من باسيل، كما بعض الدائرين في فلك "حزب الله"، رفعوا السقف عالياً، عبر القول إنّ ضمّ الوزير السابق شخصياً إلى التشكيلة الحكوميّة ينبغي أن يصبح "شرطاً لا رجوع عنه" لتأليف الحكومة، فإنّ أيّ إشاراتٍ من هذا النوع لم تُرصَد من جانب رئيس "التيار الوطني الحر"، الذي تمسّك بمقولة "وحدة المعايير" عنواناً وحيداً لمقاربة الملفّ الحكوميّ، في مواجهة ما يعتبرها محاولات "إقصاء وعزل".
وأياً كانت حقيقة تأثير العقوبات على الملف الحكومي لا تزال غير واضحة، فإنّها بإجماع المتابعين شكّلت عاملاً "مشوّشاً" مُضافاً على الاتصالات الحكوميّة، وهي نجحت بالحدّ الأدنى في زيادة "السلبيّة سلبيّة"، علماً أنّ هناك من يؤكد أنّها كانت حاضرة أصلاً في الكواليس قبل إعلانها، خصوصاً أنّ رئيسي الجمهورية والحكومة كانا في جوّها، فضلاً عن أنّ أحداً لا يستطيع الادّعاء بأنّ الحكومة كانت على وشك الولادة، حين جاءت العقوبات لتسدّد لها ضربة قاضية، فتقلب الإيجابية المزعومة إلى سلبية مفاجئة، لم يتمّ الإعداد لها بعناية.
"مغانم ومكاسب"
قد يكون للعقوبات على باسيل تأثير سلبيّ على الحكومة، كما يعتقد كثيرون، سواء دفعت "التيار الوطني الحر" إلى المزيد من "التشدد" في مقاربة الملفّ الحكوميّ، أو لم تفعل، باعتبار أنّ رسالتها المعنوية "السلبية" كافية لـ"تكبيل" العاملين على خطّ الحكومة، بشكلٍ أو بآخر.
لكنّ الأكيد أنّ هذه العقوبات، على أهميتها وحساسيّتها وخطورتها، شكّلت "فرصة" للمعنيّين بالملف الحكوميّ للاختباء خلفها خلال اليومين الماضيين، وادّعاء "مظلومية" التدخلات الخارجية العائقة للتفاهمات الداخلية، والحديث عن جهودٍ أميركية لدفن المبادرة الفرنسية.
ومع أنّ لمثل هذه الشعارات منطلقاتها العمليّة والواقعيّة، إلا أنها تبقى "منقوصة"، لأنّ "المؤامرة" الحقيقية تبقى داخليّة بامتياز، في ظلّ كلّ ما يُسرَّب عن الأسباب الحقيقية المانعة لتأليف الحكومة، والتي تتنوّع بين "تناتش" الحقائب، و"تقاسم" قالب الحلوى، وفقاً لأسلوب "المحاصصة".
وبين العقوبات على باسيل والتمسّك بالمحاصصة سبيلاً وحيداً للتأليف، تبقى المفارقة الأكثر إثارةً للجدل أنّ الطبقة السياسية تتصرّف كما لو أنّها لم تنبذ "الثورة" ومفاعيلها فحسب، بل أخذت في طريقها كلّ "الكوارث" التي تسبّبت بها، والتي لا تعلو فوق "المغانم والمكاسب" الشخصيّة!.