كان من المفترض أن يحمل إستقلال لبنان عام ١٩٤٣ كل الإستقلالية للداخل عن عواصم العالم، مهما كان مدى بُعدها او قربها عن بيروت. هكذا يعني المفهوم البسيط للإستقلال ألاّ تدخل من قبل الخارج في شؤون الداخل. لكن اللبنانيين لم يتخلوا عن طلب إستدعاء العواصم الدولية منذ تمّ تأسيس دولة لبنان الكبير منذ مئة عام. لم تكن فرنسا وحدها هي دولة صاحبة النفوذ في لبنان، لا خلال سنوات الإنتداب ولا بعده. تدخّلت بريطانيا، ودول أوروبية وأميركية ثم عربية وإيران، وبقي اللبنانيون يستدعون التدخلات الخارجية طيلة مئة عام من عمر الدولة، ولا يزالون.
كانت القوى اللبنانية ترمي أزماتها، سواء في الحرب أو في السلم، عند غيرها، في بلد مأزوم من يوم تأسيسه. كان اللبنانيون يصدّقون أن القاهرة أيام الرئيس المصري الراحل جمال عبدالناصر كانت مسؤولة عنّ صناعة أزمات لبنان، أو واشنطن او باريس ولندن، أو طهران، أو دمشق، أو الرياض، أو أنقره، وعواصم موزّعة في أربع إتجاهات الأرض، كأنها كلّها، كانت تستولد أزمات لبنان. ترسّخ هذا الإعتقاد بين الأجيال اللبنانية، حتى إذا ما تعطّل وضع قانون انتخابات نيابية جديد قيل إن الخارج مسؤول، وإذا تفرملت ولادة حكومة، قيل إن العواصم الخارجية هي التي تمنع ولادة مجلس وزراء للجمهورية اللبنانية. كلّها مجرد أوهام، من دون أن يعني ذلك عدم وجود تدخل خارجي بشؤون لبنان: هل فرضت العواصم تفاصيل محلية في بلدنا؟ الحقيقة أن القوى اللبنانية هي من يستجدي الخارج للتدخل، وإدخال العواصم بأمور لبنانية سياسية تقنية وتكتيكية بمعظم الأحيان.
نستعرض ذاك المشهد، نتيجة ربط بعض المحللين اللبنانيين أزمة تأليف الحكومة اللبنانية بإنتخابات الولايات المتحدة الأميركية، وكأن لا إمكانية لتأليف حكومة لبنانية جديدة قبل تولي الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن منصب إدارة البيت الأبيض رسمياً. إنه الوهم اللبناني. حين نرمي أزماتنا على الخارج.
ما يحصل بشأن الحكومة اللبنانية الآن، أن خلافاً لبنانياً بين القوى السياسية بشأن المحاصصات وتوازنات مجلس الوزراء، وعدم الإتفاق على مقاربة موحّدة في لبنان نتيجة العجز في طبيعة النظام السياسي، الذي يولّد أزمة لبنانية مفتوحة تتظهّر عند كل إستحقاق داخلي. هذه الحقيقة يجري إخفاؤها او القفز فوقها بإبعاد الأزمة إلى ملاعب أخرى والإيحاء بوجود أبعاد دولية لتفاصيلنا اللبنانية.
بالطبع ليس من أولويات الإدارة الأميركية الجديدة أو أي إدارة دولية وإقليمية طبيعة وتوازنات حكومة لبنان، ولا من هو وزير الأشغال العامة والنقل أو وزير الطاقة أو وزير السياحة أو غيره. إنها مسائل لبنانية في أزمة داخلية تعبّر عن القحط السياسي اللبناني لا غير. فكفى رمي أزماتنا لرفع مسؤولياتنا عنها.
إن الأزمة الحكومية حالياً هي أزمة لبنانيين لا أكثر ولا أقل، لا علاقة لسوريا ولا لإيران ولا للسعودية ولا لمصر ولا الولايات المتحدة الأميركية ولا لغيرهم بها. ان المحاولة الفرنسية في شكل وجوهر المبادرة التي طرحتها باريس هي دفع اللبنانيين لحل أزماتهم، وبالتالي منع وقوع لبنان في المحظور. لم يتدخل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في عدد ولا كيفية توزيع الوزراء. فلماذا الهروب اللبناني في كل مرة لإنتظار محطّات الإستحقاقات الدولية؟. نحن مجرد تفاصيل صغيرة في لعبة الأمم. فكيف اذا كانت أمورنا الداخلية لا تعني الأمم؟.
كل ذلك يفرض الواقعية اللبنانية بالإعتراف أن أزمة تاليف الحكومة هي صنع لبناني، لا تنتظر أحداً، ولا أحد ينتظر حلّها غيرنا. ومن هنا يمكن الجزم ألا علاقة بين استحقاق الأميركيين ومسألة حكومتنا، الاّ إذا كنا نرمي العجز الداخلي على مساحات التأجيل لعدم توافر الحلول، بإنتظار أن يطلبوا منّا صناعة الحل اللبناني. علماً أن الخارج يوحي بأن لبنان بات عبئاً عليهم.
بالمحصلة، ان ما يجري في شأن مطبّات عملية تأليف الحكومة يفرض أن يعترف اللبنانيون بأن نظامهم السياسي انتهى. آن أوان صنع صيغة لبنانية جديدة بعد إحتضار النظام عن عمر ناهز المئة عام.