لم يعرف العالم رئيساً أميركياً أحدث في العلاقات الدولية وأفسد في الملفات الأساسية الكبرى فيها كما شهده مع دونالد ترامب الرئيس الأميركي الحالي، الذي فشل في تجديد ولايته، وبات عليه ان يخرج من البيت الأبيض مذموماً مدحوراً يندب حظه ويلوم من خذله أو خانه.
يخرج ترامب من الحكم مخلفاً وراءه كمّاً من الملفات الدولية الكبرى التي أفسد مساراتها والتي ينتظر الأطراف المعنيون بها تدخلاً أميركياً مغايراً للغطرسة والجنون الترامبي في تداولها، ولوضع حدّ للإفساد الذي أحدث خللاً فظيعاً في العلاقات الدولية وتسبّب بأضرار بالغة فيها على أكثر من صعيد، اما منطقة الشرق الأوسط فقد نالها من عدوانية ترامب وجشعه وجنونه الكثير الكثير من الأذى الذي أنزله فيها مقابل أموال نقدية أو عينية دفعها له من كان مستفيداً من أفعاله السيئة تلك، ولهذا يعوّل من هو على صلة بتلك الملفات على خلف ترامب من أجل أن يصلح ما أفسد فهل يفعل خاصة على صعيد الملفات التي تعنينا مباشرة في المنطقة؟
وهنا… وبعيداً عن قضايا التسلح والمناخ والتحالفات والعلاقات الدولية والحروب الاقتصادية والأمنية والسياسية التي تشنّها أميركا على أكثر من صعيد، فإنّ الملفات التي تؤثر فيها أميركا في منطقتنا ليست بالحجم الصغير من الوضع السوري والعراقي الى الملف النووي الإيراني الى صفقة القرن الى التغوّل التركي والجموح الخليجي وكلها مواطن حامية تتأثر بالقرار والأداء والسلوك الأميركي ما يجعلنا نطرح السؤال حول مسار السياسة الأميركية الجديدة في تلك المواطن وكيف سيكون فيها أداء الرئيس الجديد جو بايدن الديمقراطي المسنّ وثاني كاثوليكي يصل الى الحكم في أميركا بعد جون كنيدي، وهل ستكون انقلابات دراماتيكية على قرارات ترامب في هذه الملفات؟ أم أن للدولة الأميركية العميقة قرارات ومسارات أخرى لا تتنكر لما سبق؟
بداية لا بدّ من التنويه انه رغم كلّ ما قيل ويقال من أوضاع أو حالات انقلابية تشهدها أميركا مع تغيير رأس الدولة هو أمر لا يمكن الاخذ به على إطلاقه، حيث انّ الحقيقة تبدو خلاف ذلك. اذ رغم انّ شخصية الرئيس أساسية في الدولة فإنّ هناك معايير وضوابط في النظام الأميركي تمنع تشكل الحالات الانقلابية الجذرية الحادة وتحول دون إحداث انقطاع مع الماضي، وبالتالي فإنّ الرئيس الجديد أيّاً كان هذا القادم الى البيت الأبيض يجد نفسه ملزماً بالتعامل مع إرث السابق المغادر كيفما كان هذا الإرث على قاعدة «انّ الحكم استمرار» مع الأخذ بعين الاعتبار حالات من الشذوذ الاستثنائي كما حصل مع ترامب وقراراته الانقلابية. فالرئيس القادم يرث تركة السابق ويتعامل معها على أساس أنها أمر واقع يعني أميركا ثم يعمل على الترميم والتصحيح من أجل التطوير وقلما نشهد حالات انقلابية جذرية كما كان يفعل ترامب في ملفات محدّدة.
لقد خلف ترامب ملفات كبرى تعني منطقة الشرق الأوسط وتتطلب قرارات من الرئيس الجديد جو بايدن لمعالجتها تصحيحاً أو ترميماً أو تغييراً، ما يطرح السؤال عن مسارات السياسة الأميركية الجديدة حيال تلك الملفات مع التغيير الحاصل في رأس الدولة بعد الانتخابات الرئاسية التي منعت ترامب من البقاء في البيت الأبيض لأربع سنوات جديدة. وهنا، ومع الاخذ الحتمي بمبدأ استمرارية عمل الدولة فإنّ تغييراً قد يحكم الأداء الأميركي حيال تلك الملفات بشكل متفاوت تغييراً فرضته موازين القوى الجديدة وتعثر ترامب وفشله في الوصول الى نهائيات الملف ونزعة بايدن للترميم والتصحيح انطلاقاً من الدرجة التي وصلت اليها تلك الملفات وفقاً لما يلي:
1 ـ الحرب على سورية والوجود الأميركي فيها وفي العراق: من خلال المواقف المعلنة والوقائع القائمة على الأرض لا نتوقع ان تتخذ إدارة بايدن قراراً بالانسحاب من البلدين، وستكون السياسة الأميركية في ظلّ الرئيس الجديد متجهة لوضع لا يشكل إعلان هزيمة «الربيع العربي» فيهما وهو «الربيع» الذي أطلقه الديمقراطيون في ظلّ ولاية أوباما ولذلك سيكون على البلدين التعامل مع إدارة أميركية ستحاول بعد الفشل في وضع اليد على كامل البلاد ستحاول تفعيل ملفات التقسيم والتجزئة التامة خاصة أنّ بايدن صاحب مشروع التقسيم أصلاً وانّ أرضيته تتشكل رويداً في شمالي شرقي الفرات سورياً وفي الشمال العراقي في إقليم كردستان. وصحيح انّ قرار التقسيم ليس أمراً سهلاً تحقيقه في ظلّ المتغيّرات الميدانية القائمة إلا أنه بات خطراً ارتفعت نسبة شدّته عما كان قائماً ما يعني انّ البلدين لن يشهدا في ظلّ إدارة بايدن انفراجات قريبة تعيدهما الى الوضع الطبيعي إلا بعمل استثنائي سياسي وعسكري يحصل بدعم من الحلفاء وهو أمر بات ملحاً كما انه غير مستبعد.
2 ـ «صفقة القرن» سيكون التجميد فيها هو الوجهة المرجحة مع وجود بايدن في السلطة مع ما سيشكل تجميدها من ترددات سلبية على الوضع الشخصي لكلّ من نتنياهو ومحمد بن سلمان حيث نرى انّ مشروع بايدن لحلّ القضية الفلسطينية قائم على أساس الدولتين في غير صيغة «صفقة القرن»، وسيعود هذا المشروع الى الواجهة أخذاً بعين الاعتبار الخطوات التي تحققت في إطار الصفقة التي لم ينفذ منها ما يجعلها نهائية غير قابلة لإعادة النظر، حيث انّ حجم العوائق لاكتمال التنفيذ بات الآن أكبر بكثير من حجم الضغوط من أجل تمريرها ولهذا نرى انّ القضية الفلسطينية ستدخل في مرحلة مراوحة جديدة لا يكون فيها قدرة على المتابعة في صفقة القرن الترامبية ولا يوجد فرص كافية لحلّ جذري يرضي الفلسطينيين ولكن سيسجل على أيّ حال لمعارضي «صفقة القرن» انهم نجحوا في عرقلتها أولاً وتجميدها لاحقاً ويبقى عليهم العمل من أجل إجهاض ما نفذ منها ومنع استئناف العمل بها.
3 ـ الملف النووي الإيراني. سيشهد هذا الملف تحريكاً مهماً باتجاه إعادة النظر بموقع الولايات المتحدة فيه بعد ان سحب ترامب توقيع أميركا عن الحلّ الذي توصلت اليه مجموعة 5+1 مع إيران وكرّس بقرار من مجلس الأمن. ونعتقد انّ إيران ستدخل مع الأميركي والأطراف الأخرى في مفاوضات مقيّدة من أجل تطوير هذا الاتفاق بعد ان تتراجع أميركا عن إجراءات ترامب الكيدية بحقها. ولا نتصوّر بأنّ أميركا ستعود الى الاتفاق وكان القرار الترامبي لم يقع بل نرى حلاً وسطاً سيحكم الملف تستفيد منه إيران ما سيؤكد مرة أخرى انّ صمود إيران حفظ حقوقها ويثبت انّ سياسة العقوبات الأميركية فشلت في تحقيق الأهداف منها.
4 ـ التغوّل التركي الواسع، سيواجَه بقرارات أميركية جدية تمنع استمراره، واعتقد انّ بايدن سيعيد تركيا عامة وأردوغان بخاصة الى المقعد الذي حدّده الغرب له ولن يدعه يتابع مسيرته التسلطية والتغوّل على المنطقة امتداداً من لبيبا الى أذربيجان مروراً بكلّ من سورية والعراق وقبرص واليونان، وسيجد أردوغان نفسه مع بايدن أنه أمام قيادة تضبطه وتعيده الى العمل لمصلحتها وعنصراً في معسكرها دون أن تترك له المجال لممارسة مشروع تركي توسعي خاص مستقلّ عن الغرب. وهذا سينعكس حتماً على الميدان في كلّ من ليبيا وسورية والعراق وأذربيجان.
5 ـ الوهم السعودي والخليجي وحرب اليمن، قد يكون اليمن في طليعة المستفيدين من مراجعة أميركا لسياستها في المنطقة على يد بايدن، حيث لا نتوقع أن يعطي الأخير وقتاً إضافياً للسعودية لحسم حرب اليمن، وهو حسم بات في حكم المستحيل، لذلك نعتقد انّ حرب اليمن قد تشهد نهاية لها خلال العام المقبل وبشكل دراماتيكي من الوجهة السعودية،
وعليه نستطيع ان نقول انّ انفراجات مرجحة سيشهدها الوضع اليمني والإيراني، وتعقيدات أو مراوحة في الشأن السوري والعراقي والفلسطيني انْ لم تحدث صدمة داخلية مسندة بدعم خارجي وضبط حتى التقييد للحركة الخليجية والتركية في المنطقة هذا من الجانب الأميركي، أما الردّ فيبقى رهن قرارات المعنيين الإقليميين والدوليين، الذين سيتصرفون بدون شك على أساس المستجدات التي رسمتها المواجهات دولياً وإقليمياً، والتي أسقطت القول بانّ «أميركا هي القدر الذي لا يُردّ» والتي تفعل ما تشاء وتفرض ما تشاء، فأميركا هذه انتهت وانّ عالم القطب الواحد الذي رغبت به غير قائم الآن، في ظلّ وضع باتت ملامح نظامه مؤكدة قائمة على التعددية في المجموعات الاستراتيجية.