يتظهّر النزاع في شرق البحر الأبيض المتوسط على جبهات عدة. وقد يتّخذ بعداً عسكرياً لاحقاً في حال ترجم كل فريق إستنفاراته السياسية والدبلوماسية والأمنية-العسكرية، بدليل القمّة الثلاثية بين جمهورية مصر العربية واليونان وقبرص، لمواجهة التمدّد التركي. لم يتطور الإستفزاز الذي تمارسه أنقره بحق أثينا إلى حد الحرب، لكن التلويح بالعسكرة يبدو من خلال الأحلاف الظاهرة بعد تقدّم الأتراك إلى مساحات واسعة في بحر شرق المتوسط، وهو ما تعتبره كل من اليونان وقبرص وخلفهما فرنسا، بأنّه تعديات تركية للسيطرة على جغرافيا أوسع، في حرب الخرائط التي تقود إلى وضع اليد على ثروات النفط والغاز.
وفق تلك المعادلة إنعقدت القمة المصرية-اليونانية لإعلان حلف يضم قبرص وفرنسا عملياً في وجه تركيا. لكن هل يحدّ وهج التجمع الرباعي من تمدد الأتراك؟ لا يبدو أن الأميركيين مستاؤون ضمنياً من الأطماع التركية، بينما تتفرج إسرائيل على جبهتين صديقتين لتل أبيب: تربط الإسرائيليين وكل القوى الأخرى المتنازعة علاقات جيدة. ومن هنا لا يُظهر لا الإسرائيليون ولا الأميركيون مواقف منحازة مع أي فريق في صراع يتدرّج نحو المخاطر المباشرة.
تبدو الهموم الأميركية والإسرائيلية في مكان آخر: الحدود الجنوبية اللبنانية، والسورية. ومن هنا تضغط واشنطن من أجل ترسيم تلك الحدود، لكن لبنان فاجأ الأميركيين والإسرائيليين الذين توقعوا هرولة لبنانية لبت ملفات ترسيم الحدود الجنوبية، إنطلاقاً من حاجة لبنان لثروات الغاز في الحقول الحدودية الجنوبية، ولإعتبار ان هناك تشظياً سياسيا لبنانياً يخفّف من قوّة الموقف في بيروت، فيما تضغط العقوبات الأميركية على اللبنانيين، فيسارعون للموافقة على خط فريديرك هوف. ما حصل خلال أربعة إجتماعات من التفاوض غير المباشر بأن لبنان لم يتراجع، لا بل قدّم خرائط تُظهر حقوقه في مساحات تصل الى حقل كاريش الذي تسيطر عليه إسرائيل.
لذا، فإن لبنان الذي يحيد نفسه عن حرب الخرائط بين الجبهات الأخرى، يجد نفسه، ومثله سوريا(في البر)، مشغولاً بحرب الترسيم على حدود جنوبية غنيّة بالثروات الطبيعية. قد تقود هذه الحرب إلى نزاع مفتوح في حال أصرت إسرائيل على بت الترسيم وفق خط هوف بعد سقوط طرحها الجغرافي رقم واحد. لكن الإسرائيليين يدركون أن أي نزاع سيحرمهم من التنقيب عن الغاز الذي من المفترض أن يبدأ عندهم بعد أشهر، بحسب الإتفاقيات مع شركات دولية. مما يعني أن بت أمر الترسيم هو ليس مصلحة لبنانية فحسب، بل هي مصلحة إسرائيلية. ومن هنا يرفض لبنان أي تنازل في مفاوضات غير مباشرة ترعاها الأمم المتحدة وتشرف عليها الولايات المتحدة الأميركية.
وعليه، سيكون شرق المتوسط عامراً بالرسائل في حرب الخرائط التي إنطلقت بوجهين: مفاوضات غير مباشرة بين لبنان وإسرائيل، ولاحقاً بين سوريا وإسرائيل. وعرض عضلات بين تركيا من جهة، ومصر واليونان وقبرص وفرنسا من جهة ثانية. واذا كان الأميركيون يهتمون لملفات الترسيم بين الإسرائيليين واللبنانيين والسوريين، فإنّهم لا يكترثون لأزمة تقودها تركيا في خطواتها الجغرافية التوسعية. فهل تحمل إدارة البيت الأبيض الآتية بعد أسابيع إلى العمل الرئاسي أي مشاريع تسوية جديدة؟ يبدو أن أنقره تستغل الوقت الأميركي الضائع دولياً لفرض أمر واقع قبل الدخول في تسويات مرتقبة.
مشهد حرب الخرائط كان حطّ رحاله أيضاً بين أرمينيا واذربيجان، بإتفاق رعته روسيا برضى تركي، إلى حد ذهب فيه الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بمطالبة موسكو بحل أزمة إدلب. لكن موضوع الشمال السوري مختلف عن المساحات الجغرافية الأخرى، لأن الأرض سورية لا نزاع بشأنها، الاّ إذا كانت تركيا تريد إبتلاع أراض من سوريا تحت عنوان التسوية. فلننتظر مشاهد حرب الخرائط في كل إتجاه. إنها عنوان المرحلة بحثاً عن ثروات طبيعية في باطن البحر واليابسة.