تصرّ القوى السياسية على إعطاء انطباع بأنّها لا تزال قاصرة، وبأنّ لبنان في مئويته الاولى لم يصل بعد الى سن الرشد.
في السابق، كان عبد الحليم خدام او غازي كنعان يزوران بيروت لمعالجة تفاصيل الخلافات الداخلية وحياكة الثوب الحكومي بطريقة تتناسب مع المقاسات المتفاوتة لأجسام المكونات اللبنانية.
اليوم، «تقتبس» باريس دور الرعاية للدولة اللبنانية «المراهقة»، وتحلّ مكان دمشق في ملء الفراغ الناتج من مأزق النظام وعجز المنظومة.
وعلى الرغم من الأجندة المزدحمة للرئيس ايمانويل ماكرون وانشغاله بالوضع الداخلي الفرنسي، بعد تصاعد التهديد الأمني على وقع الهجمات الأخيرة، الّا انّ ذلك لم يمنعه من إيفاد مستشاره المكلّف بالملف اللبناني باتريك دوريل الى بيروت، في محاولة لتفعيل المبادرة الفرنسية وانتشال مشروع الحكومة الجديدة من بئر التجاذبات المتمادية بين المعنيين بالتأليف.
والموفد الفرنسي ليس غريباً عن اورشليم، بل هو مطّلع على أدق التفاصيل المتعلقة بالواقع السياسي اللبناني وملمّ بتعقيداتها، خصوصاً انّه يواكبها بوتيرة شبه يومية منذ أن قرّر ماكرون إطلاق مبادرته على وقع أصداء الانفجار الهائل في مرفأ بيروت.
ويفيد المطلعون على كواليس المسعى الفرنسي المتجدّد، انّ ماكرون قرّر انتداب باتريك دوريل الى المهمة الجديدة في هذا التوقيت تحديداً، بعدما شعر انّ فرصة الإنقاذ تحتضر وانّها دخلت في الوقت القاتل، وسط استمرار التعثر في تأليف الحكومة، على بُعد مسافة قصيرة من موعد انعقاد المؤتمر الدولي الذي دعت اليه فرنسا في أواخر هذا الشهر، لمساعدة لبنان في احتواء ازمته الاقتصادية بمشاركة «مجموعة الدعم».
وقد عجّل الاتصال الهاتفي الذي اجراه الرئيس ميشال عون بماكرون قبل أيام، في قرار الرئيس الفرنسي بإيفاد مستشاره لشؤون الشرق الأدنى الى لبنان، بعدما تبيّن له خلال هذا الاتصال انّ عِقَداً عدة لا تزال تراوح مكانها وتعطّل اكتمال حبات العقد الوزاري.
ويفيد المواكبون عن قرب لعملية تنشيط الجهد الفرنسي، انّه ما لم تتشكّل الحكومة سريعاً، وتحديداً قبل نهاية هذا الشهر، تمهيداً للبدء في إقرار الإصلاحات، فإنّ لبنان لن يحصل على اي دعم دولي وازن، ولن ينال دولاراً واحداً لإعادة تعويمه اقتصادياً، وبالتالي ستقتصر وظيفة المؤتمر عندها على تقديم بعض المساعدات الموضعية للتخفيف من تداعيات انفجار المرفأ.
ويحذّر هؤلاء، من انّ التمادي في المراوحة والمماطلة سيهدّد مساهمات «سيدر» وصندوق النقد الدولي، التي قد تصبح في مهبّ الريح.
ويستغرب الفرنسيون، وفق اوساط قريبة منهم، إمعان الافرقاء اللبنانيين في الغنج والميوعة على مستوى سلوكهم السياسي، بينما كل المؤشرات والارقام تفيد باقتراب خطر الانهيار الشامل ما لم يتداركوه من خلال التعجيل في الولادة الحكومية وتطبيق الإصلاحات المطلوبة.
ويسعى الوسيط الفرنسي الزائر، عبر المروحة الواسعة من لقاءاته، الى تحقيق خرق في «الباطون المسلح» الذي يفصل الرئيس المكلّف سعد الحريري عن السرايا، وإيجاد مساحة مشتركة بين المختلفين على الاسهم الوزارية، آملاً في أن يغادر وقد نجح في مهمته، حتى لو اضطر الى تمديدها، في حال وجد انّ هناك ايجابيات يمكن البناء عليها.
اما اذا اخفق دوريل في مسعاه وعاد الى باريس خالي الوفاض، فإنّ شخصية لبنانية على صلة وثيقة بباريس تعتبر انّه سيكون حينها قد آن الأوان للقول: «العوض بسلامتكم..».
لكن تلك الشخصية تأمل في أن يتهيب المعنيون الموقف وان يسهّلوا جميعاً، كل من موقعه، تشكيل الحكومة، ويتجاوبوا مع وساطة دوريل، قبل أن تسبق الازمة الكل ويصبح اللحاق بها صعباً، منبّهة الى انّ «القصة لم تعد قصة حقائب بل مصير بلد مهدّد بالانفراط»، علماً انّ العقوبات الأميركية على رئيس «التيار الوطني الحر» النائب جبران باسيل قد تكون دفعت البعض الى نوع من «التصلّب الوقائي» خشية من الاستفراد او الاستضعاف.
ويبقى التساؤل: اذا فرّط اللاعبون اللبنانيون بالمبادرة الفرنسية الموصولة الى انابيب الأوكسيجين، وأفرطوا في العبث فوق أنقاض الدولة «المكسورة»، هل يمكن ان تصدر عن باريس في نهاية المطاف «عقوبات» من نوع آخر، متخذة الطابع الجماعي، عبر ختم ابواب المبادرة بالشمع الأحمر وترك الطبقة السياسية بمجملها تواجه مصيرها امام تسونامي الانهيار المتدحرج، على قاعدة «لقد أردنا ان نساعدكم لكنكم لم تساعدوا أنفسكم»؟ وهل تغامر هذه الطبقة بمصالحها نتيجة عنادها، ام تنزل عن أعلى الشجرة بواسطة السلّم الفرنسي؟