ما إن تداولت وسائل الإعلام خبر هزيمة ترامب في الانتخابات الرئاسية وفشله في تجديد ولايته لأربع سنوات أخرى حتى وقبل ان تنتهي عمليات الفرز وتعلن النتيجة الرسمية بشكل نهائي قاطع، اقدم الرئيس الذي لم يتبق له في البيت الابيض سوى 70 يوماً فقط تنتهي في 2012021 اليوم المحدّد دستورياً لانتهاء ولاية الرئيس، أقدم ترامب المكابر والرافض الإقرار بالهزيمة على إقالة وزير الدفاع مارك إسبر ودفع وكيل البنتاغون الى الاستقالة وتسريب خبر التحضير لإقالة كل من مدير المخابرات المركزية C.I.A ومدير مكتب التحقيق الفيدرالي F.B.I والذي يعد بمثابة وكالة الاستخبارات الداخلية، وأرفق التغييرات مع تسريبات إعلامية بالبدء بشحن الصواريخ والقنابل الذكية الى الامارات العربية ثم تنظيم جولة لوزير الخارجية بومبيو تشمل كلاً من فرنسا وتركيا والسعودية والإمارات العربية و»إسرائيل» مهّد لها بمؤتمر صحافي أهمّ ما اعلن فيه هو التأكيد على موقف ترامب بانّ الأمل بالفوز قائم لا بل حتمي، وانّ الدخول الى الولاية الثانية لترامب سيتمّ بسلاسة لأن ترامب لن ينقطع عن ممارسة الحكم.
إن تحليلاً لكل ما ذكر يقودنا الى استخلاص شيء أساسي مفاده بان ترامب يعيد تنظيم إدارته من أجل القيام بعمل ما عسكري أو أمني أو من طبيعة خاصة أخرى، وانه يريد ان يسند المهمة الى من يكون طوع بنانه ويلتزم بأوامره من دون نقاش او تردّد او تلكؤ والذي يعزز هذا التفسير هو انّ الإقالات المنفذة او المنتظرة برّرت أو تبرّر بصلابة أولئك المعزولين وعدم انصياعهم للرئيس، كما يوجب نظام عمل فريق «أمرك سيدي».
فإذا أخذنا بهذا التفسير أيّ الإعداد لاستعال القوة في مكان ما، فإنّ السؤال التالي سيكون أيّ ميدان سيختار ترامب لممارسة أفعال القوة تلك؟ وهنا سيكون منطقياً التفكير بالميدانين الأميركي الداخلي والدولي الخارجي.
ففي الوجه الداخلي يمكن أن يفسّر بنية ترامب بعد رفضه الإقرار بالهزيمة عدم تسليم السلطة الى من أكدت عليه صناديق الاقتراع بأنه الرئيس، وبالتالي سيتمسك ترامب بأصوات الـ 70 مليون أميركي (48% من المقترعين) الذين اقترعوا له ويستند الى قوة السلاح الذي انتشر بين المواطنين حتى فاق في آخر تقدير الـ 40 مليون قطعة سلاح، ويريد ان يأمن جانب القوى العسكرية والأمنية والقضائية حتى يطمئن الى نجاح الحركة الشعبية المؤيدة له والرافضة لخروجه من البيت الابيض. وبهذا تكون المناقلات والتعيينات بدءاً من رئيسة المحكمة العليا وصولاً الى من ذكر أعلاه، أعمالاً إعدادية لمسرح العمليات الرسمية والشعبية لتثبيت ترامب في موقعه بصرف النظر عما نطقت به صناديق الاقتراع. قرار يتخذه غير عابئ بما قد يقود إليه هذا التدبير من انفجار شعبي قد يؤدي الى حرب أهلية وتشرذم الدولة، فترامب يؤمن بأنّ الأكثرية البيضاء التي صوّتت له هي التي يحق لها أن تختار رئيس الولايات المتحدة فإن لم تجارِها الأكثرية الشعبية العامة فيجب ان يعمل برأي الأكثرية البيضاء كائناً ما كانت النتائج.
أما الوجه الخارجي لاستعمال القوة وهو الأخطر فإنه قد يكون بدافع الانتقام او تنفيذ ما تخلف عن تنفيذه رغم التعهّد به وسيكون في واحد او أكثر من مسارح عمليات أساسية أربعة، أولها منطقة الشرق الأوسط ضدّ محور المقاومة وإيران، والثاني في أميركا اللاتينية ضدّ فنزويلا وسواها، والثالث في الشرق الأقصى ضدّ الصين والأخير ضدّ روسيا.
ومن وجهة نظرنا ومن بين مسارح العمليات هذه نرجّح أن يكون الخيار المفضل الأول قائماً على المفاضلة بين الشرق الأوسط وأميركا اللاتينية مع ترجيح مؤكد للشرق الأوسط، خاصة انّ ترامب سيجد فيه ما يلائمه أكثر لشنّ العمليات الحربية او تبريرها، حيث إنّ نفقات الحرب ستؤمّن من أموال النفط الخليجي (البعض يقول بانّ السعودية مع دول خليجية اخرى دفعت سلفاً نفقات هذه الحرب وتلقت وعداً بتنفيذها من دون أن يحدّد تاريخ شنّها) وإنّ افتعال سبب مباشر لاندلاع شرارة الحرب أمر سهل في ظلّ النيران المستمرّ اشتعالها في المنطقة منذ 10 سنوات مع وجود 65 الف جندي أميركي في 54 قاعدة عسكرية منتشرة في المنطقة ـ ثم إنّ هذه الحرب ستحقق الامن لـ «إسرائيل» بشكل نهائي عبر تفكيك محور المقاومة وتدمير أسلحته الخطرة بكل مكوّناته، ومضيفاً الى تدمير سورية إيران وحزب الله. وستوفر فرصاً أكبر لصفقة القرن التي أعطت إسرائيل أكثر مما كنت تطلب. فإذا اختار ترامب هذا الاتجاه، فإنّ السؤال التالي سيكون: ما هو بنك الأهداف وما هي العمليات العسكرية والأمنية المحتملة التنفيذ؟
طبعاً، نستبعد الحرب الشاملة في المنطقة بما فيها الاجتياح البري والاحتلال كما حصل في العراق ونستبعد العمل الواسع النطاق على جبهات متعددة براً وبحراً وجواً، نظراً لأن التحضير القانوني والإداري والعملاني واللوجستي من ترخيص وتحشيد ونقل عتاد وتجهيزات غير ممكن في الوقت المتاح، ومع التأكيد على استمرار سياسة التدابير الإجرامية اللاشرعية التي تسميها أميركا «عقوبات» ومع احتمال تصاعد الحرب السبيرانية فاننا نرى ان القيادة الأميركية الملتصقة بترامب لتنفيذ نزواته وموجات عنجهيته وغضبه ستجد نفسها أمام رزمة من الخيارات العسكرية الميدانية التي تتجنب المواجهات البرية والقتال على الأرض ولذلك سيكون الاختيار مركزاً على واحد أو أكثر مما يلي:
1 ـ ضربات تدميرية للمنشآت النووية الإيرانية وللوجود المقاوم في سورية والعراق ولبنان.
2 ـ عمليات بحرية في الخليج ضد إيران مترافقة مع عمليات برية ضد الأهداف الاستراتيجية الكبرى.
3 ـ ضربة عسكرية مركزة ضد ما يوصف بالصواريخ الدقيقة لحزب الله في لبنان، مترافقاً مع التعرّض للوجود العسكري لمحور المقاومة جنوبي سورية.
4 ـ تنفيذ عمليات اغتيال واسعة على صعيد محور المقاومة وقادته.
هذه الفرضيّات ستدفع محور المقاومة، الذي كما اتضح من كلام السيد حسن نصر الله أمس، أنّ ما يجري واقع تحت نظر المحور ويأخذه بالجدية القصوى ويضعه ضمن دائرة الأعمال المحتمل أن يقوم بها ترامب بتمويل عربي خليجي وتشجيع إسرائيلي ولتحقيق رغبات شخصيّة، ولهذا فإن هذا التصور يدفع المحور لاتخاذ تدابير دفاعية شاملة من قبله وبكل مكوّناته، تدابير تكون على وجهين:
أ ـ الأول الدفاع السلبي لتجنب الضرر أو للحد من الخسائر للحد الأقصى عبر اتخاذ التدابير التي تعقد مهمة المعتدي وتحول دون الوصول الى أهدافه بيسر وسهولة، وطبعاً هذا الامر متخذ، ولكن قد يستلزم المزيد من الإجراءات، للتحسين والتفعيل أكثر.
ب ـ اما الثاني وهو الأهم والأفعل ويكون بالدفاع الإيجابي الردعي الفاعل عبر العمل المركز باستراتيجية «الهدف بالهدف المقابل». وهنا سيكون لدى محور المقاومة بنك اهداف واسع يشمل بالإضافة الى القواعد العسكرية الأميركية في المنطقة والاسطول البحري في الخليج بنك أهداف يشمل كامل المساحة المغتصبة في فلسطين المحتلة، والمراكز الاستراتيجية العسكرية والاقتصادية في الدول المموّلة للحرب فضلاً عن المعابر المائية في مضيق هرمز وباب المندب.
وفي كلّ الأحوال يجب أن لا يغيب عن البال أهمية الحرب النفسية التي ستسبق أي عمل وعدوان وترافقه وتستمر بعده خاصة أن العدو يتكئ عليها بشكل واسع، لكن محور المقاومة بات له الباع الطويل فيها حيث برع بها في العقدين الأخيرين الى حدّ انه بات يملك المناعة ضدّ سموم العدو ويملك القدرة للفتك بمعنوياته، خاصة بعد ان أكد في كلّ مناسبة ان العدو يمكن أن يطلق الطلقة الأولى، لكنه حتماً لن تكون له الطلقة الأخيرة، فهل يغامر ترامب بعمل جنوني غير محسوب ويتغيّر وجه المنطقة، ام انّ الدولة العميقة في أميركا ستمسك على يده وتلقيه خارج البيت الأبيض قبل تنفيذ قراره الانتحاري؟