يَهرُبُ الإنسانُ عادةً مِن مُواجَهةِ الحَقيقةِ لأنّها تُعرِّيهِ وتَكشِفُ المَستُور. وكثيرًا ما نتستّرُ بِلباسٍ ما أو مقامٍ ما أو مركزٍ ما،نُخفي به عَوراتِنا، ونتزيّنُ بِصُورةٍ مِثاليّة، فتأتي حادثةٌ ما وتكشِفُ هَشاشةَ صُورتِنا الكاذِبة.
يذكر لوقا الإنجيليُّ أن ناموسيًّا أراد أن يُجرِّبَ يسوعَ، فسأله ماذا يعمل لِيَرثَ الحياةَ الأبديّة. فقال لهُ الرَّبُّ: ماذا كُتِبَ في النّاموس؟ فأجابَ: أحبِبِ الربَّ إلهَكَ من كلِّ قلبِكَ ومن كلِّ نفسِك ومن كلّ قُدرتِك ومن كلِّ ذِهنِك، وقريبَك كنفسِك، فقال لهُ بالصَّوابِ أجبتَ. إعمل ذلك فَتحيا. فأرادَ أن يُزكّي نَفسَهُ فقال ليسوعَ ومَن قريبي؟(لو ١٠: ٢٥-٣٧).
قبل الدُّخولِ في جوابِ الرَّبِّ الذي يكشِفُ رِياءَ كُلِّ مَن يتبَجَّحُ بِأنَّهُ حافظٌ وصايا اللهِ، سَنتَعَرَّفُ على النَّامُوسِيّين.
بِالأساسِ كَلمةُ نَامُوسيّ مِن نَامُوس، وهي كلمةٌ يُونَانيَّةٌ تَعني الشَّريعةَ أو القَانُون νόμος. والنَّامُوسِيُّون عِندَ اليَهودِ هم المُتخَصِّصُونَ بِشريعةِ مُوسى ويُعلِّمونها. وهنا الفَخُّ الكبير؟ هل معرفتُهم للنَّاموسِ نابعةٌ من عِشقٍ لِكَلمةِ اللهِ وعيشٍ للشَّريعةِ أم هي مهنةٌ واختصاصٌ دون الرُّوح؟!.
موقفُ النَّاموسيّين العِدائيّ تجاه الرَّبِّ يَسوعَ خيرُ جَواب، إذ عِوضَ أن يَكونَ تَفحُّصُهم للنَّاموسِ طريقَ قداسةً، باتَ مقامَ كبرياءٍ وتَشامُخٍ وعجرفة، وبِالتَّالي سَقطتْ عِندَهمُ المَحبّةُ وتَحوّلتْ قُلوبُهُم إلى حَجر. وكانوا دائمًا يُحاوِلُونَ إفحامَ الرَّبِّ بِأسئلةٍ لِيُوقِعُوه، فيَرتَدُّ الأمرُ عليهم، إذ كان يَسوعُ يُعرِّيهم بِمَحبَّتِهِ ويُفحِمُهم بِتَواضُعِه. هُوَ يُريحُ النَّاسَ بِسلامِهِ، وهُم على العَكس، كانُوا يُحمِّلونَ النَّاسَ أَحْمَالًا عَسِرَةَ الْحَمْلِ، ويُمَجِّدون أنفُسَهم مُمَيِّزينَ ذَواتِهم عَن الآخرين، فاستَحَقُّوا اللّعنةَ مِن الرَّب.
تَفادِيًا لِهذا الأمرِ يُحذّرُنا الآباءُ القِدِّيسُون مِن فَخِّ تَعظيمِ الذَّاتِ قَائِلِينَ: حتَّى ولَو حَفِظْنا الكِتابَ المُقدَّسَ عَن ظَهرِ قَلبٍ،أو نِلنا أَعلى شَهاداتٍ في اللّاهوتِ، وحَتَّى ولَو تَابَعنا واشتَرَكنا في كُلِّ الصَّلواتِ والقَداديسِ، ورتَّلنا أَجملَ التَّراتيلَ والألحانَ الكَنسيَّة، وقرأنا كُلَّ الكُتُبِ الرُّوحِيّةِ والتَّفاسيرِ الكِتابيَّة، وشَاركنا بِكُلِّ النَّشاطاتِ الكَنسيَّة، وحتّى وإن تَبَوّأنا مَسؤولِيَّاتٍ كَنسيَّةً، إكليركيّينَ كُنّا أو غَير إكليركِيّين، ونِلنَا مَدحَ المَسُؤولِينَ الكَنسيّينَ وغَيرِ الكَنسيّين،وألقينا مُحاضَراتٍ وأجرينا مُقابَلاتٍ وقدَّمنا بَرامجَ، وعَلَّمنا وكَتَبنا مَقالاتٍ وأَصدَرنا كُتُبًا، وقُمنا بِالكثير من الأعمالِ الخيريَّة، و ... لا نَكونُ حَقًا مَسيحيّينَ إذا لم نتّضعْ ونُحِبّْ ونَنزَعِ الشَّرَّ مِن قَلبِنا. وَالشَّرُّ هُوَ عَكسُ المَحبَّةِ وعدم الإحساسِ بِالآخَر، وهُوَ إدانَةُ الآخَرينَ، وَالكِبرياءُ والحَسدُ والغَيرةُ و... لِذا التَّنقيةُ الدَّاخليَّةُ بِالاعتِرافِ والتَّوبةِ هي الأَساس.
بِالرُّجوعِ إلى الحِوارِ، يُخبِرُ الرَّبُّ قِصَّةَ السَّامِريّ الشَّفوقِ الّذي تَعطَّفَ على الإِنسانِ الّذي اعتَدى عَليهِ اللّصوصُ ورَمَوهُ بَينَ حَيٍّ ومَيتٍ، بَعدَ أن عَرَّوهُ واعتَدَوا عَلَيه، بَينَما مَرّ به كاهنٌ ولاويّ ولم يلتفِتا إليه.
هُنا يُعطينا الرَّبُّ درسًا كَبيرًا عَارِضًا أَمامَنا ثَلاثَ فِئاتٍ، كَاهِنًا ولاوِيًّا وسَامِريًّا: أوَّلُ كاهِنٍ نَقرأُ عَنه في الكِتابِ المُقَدَّسِ هُوَ "مَلْكِي صَادِقُ، مَلِكُ شَالِيمَ" الّذي كان كَاهِنًا للهِ الْعَلِيِّ"(تكوين ١٨:١٤). يُرجَّحُ أنَّهُ كانَ مَلكَ أُورشليمَ أي مَدينةِ السَّلام. معنى اسمِهِ مَلكُ البِرِّ والسَّلام، وقَد يَكونُ هذا اسمَهُ الحقيقيُّ أو لَقبَه. أيًّا كان الأمرُ يَبقى البِرُّ مَقصدَ الله بالإنسانِ، ويِدعُونا لِنكونَ في سلامٍ دَاخِليّ، ونَتبادلَ هذا السَّلامَ مَعَ الآخَرِين.
لقد كان مِن غَيرِ المَسموحِ عِندَ اليَهودِ أن يُمارسَ الكَهنوتَ أشخاصٌ عِندَهم عَاهةٌ جسديَّة ما، لأنَّ الكهنوتَ يَرمُزُ إلى المسيحِ المُنتظَرِ الكامِلِ والخَالي مِن كُلِّ خَطيئة. ولكنَّ العَاهةَ الحَقيقيَّةَ هي الخَطيئةُ التي لا نتوبُ عنها ولا نعترفُ بِها.
صحيحٌ أنَّ الكاهنَ يُقدِّمُ الذَّبيحةَ إلّا أنَّها ذَبيحةُ شُكرانٍ وتَسبيحٍ ومَحبَّةٍ ورَحمَة، وقد قال اللهُ لليهودِ على لِسانِ هُوشعَ النَّبيّ: "إِنِّي أُرِيدُ رَحْمَةً لاَ ذَبِيحَةً، وَمَعْرِفَةَ اللهِ أَكْثَرَ مِنْ مُحْرَقَاتٍ"(هو ٦:٦). كما قالَها يسوعُ للفَرِّيسيِّينَ عِندمَا نَعَتُوه بأنَّهُ يأكلُ مَعَ العَشّارِينَ والخَطأة(مت ١٣:٩).
اللاوي نِسبةً إلى اللّاويّين الّذينَ هُم سِبطٌ مِن أَسباطِ إسرائيلَ الاثنَي عَشر. إختَارَهُم اللهُ في العَهدِ القَديمِ لِخِدمتِه، حَيثُ كانُوا يَحملون خَيمَةَ الاجتماعِ ويَحرِسُونَها، وهِي المَكانُ الّذي كانَ يُحفُظُ فيه لَوحَا الوَصايا، ويَنزِلُ الرَّبُّ لِلِقاءِ مُوسى النَّبيّ. كما كَانُوا يُساعِدُونَ الكَهنةِ حَتّى أنّه قِيلَ عَنهم إنَّهُم سَبَقُوا الكَهنَةَ في استِقَامَةِ القَلب(سفر الأخبار الثاني ٣٤:٢٩).
ومَعَ هَذا كُلّه لم يَقُمِ اللّاويّ بِمُساعَدَةِ الرَّجُلِ المُصابِ كمَا أَخبَرَ الرَّبُّ.
أخيرًا السَّامِريُّ وهُوَ مِنَ السَّامِريّين. هُم شِيعةٌ يَهوديَّةٌ اختَلَطَت بِمُستَوطِنِينَ أَتى بِهم الأَشُوريُّونَ إلى فِلسطينَ في القَرنِ الثَّامِن قبلَ المِيلادِ مِن بَابِلَ والعَرَبيَّة، وبَاتُوا مُعتبَرينَ أدنى مُستوىً مِنَ اليَهودِ الأَصليّين بِحُجَّةِ أنَّ دَمَهم غَيرُ نَقيٍّ ومُلطَّخٌ بِدَمٍ غريبٍ ووثَنِي.
كان اليهودُ يَتجنَّبُونَ المُرورَ في مُدُنِهم ويَسيرونَ في طَريقٍ جَانِبِيَّةٍ لِئلاّ يَلتَقُوا بِهم إذ أنَّهم يَعتَبرونَ كُلَّ سَامِريٍّ نَجِسًا، هُوَ وطعامُه وعِبَادَتُه، حتّى أنّ لفظَ كَلمةِ سَامِريٍّ يُنَجِّسُ اليَهودَ، وقد عَيَّرَ اليهودُ يَسوعَ بِقَولِهم إنّهُ سامريٌّ وإنَّ بِهِ شَيطان.
والمُفاجَأةُ هي هُنا، إذ وحْدَهُ السَّامريُّ من أشفَقَ على الرَّجلِ المُعتدَى عَليه، فعرَّضَ نفسَه للخَطرِ وضَمَدَ جراحاتِهِ، وحملَهُ على دابَّتهِ، وأتى بهِ إلى فندقٍ، واعتنى بأمرِه، ودَفَعَ مَصاريفَ عِلاجِه.
وختمَ يسوعُ كلامَهُ سائلًا النَّامُوسيّ: أيَّ هؤلاءِ الثَّلاثةِ تَحسَبُ صار قريباً للّذي وقعَ بينَ اللُّصوص؟ أجاب: الّذي صنع َ إليهِ الرَّحمة. فقال لهُ يسوع: امضِ فاصنعْ أنتَ أيضاً كذلك.
قصَّةُ السَّامريّ الشَّفوقِ تَعني كُلَّ واحِدٍ منّا أيضًا. ساعِدنا يا رَبُّ ألّا نَكونَ مَغرُورينَ بِأنفُسِنا فَنُصبِحَ فَاقِدي النِّعمةِ وعديمي الرَّحمةِ، مُتَذَرِّعينَ بِحُجَجٍ لا تَمُتُّ إلى إنجيل الرَّبِّ بِأيّةِ صِلَة، عندها يَنطَبقُ عَلينا قولُ المَزمور: "أَتَعَلَّلَ بِعِلَلِ الشَّرِّ"(مزمور ٤:١٤١).