تُطالعنا بين الفينة والفينة، دعواتٌ إِلى إِلغاء الإِعلام الرّسميّ عبر "إِعدام" الوزارة، فتُطلق الصّرخات: "اصلبوها... وارجموا مَن فيها"... وينبري بعض الأَقلام لإِعداد التّقارير الصّحافيّة الّتي لا تكتفي بذكر ما يعتبره البعض مُحاصصة فسادٍ سياسيٍّ في خُطوة التّعاقد مع إعلاميّين و"شراء خدمات" بالتّعاقد، من دون أَن يُشكّل ذلك "صفةً وظيفيّةً بأَيّ شكلٍ مِن الأَشكال" على ما أَوضح وزير الإِعلام السّابق ملحم الرّياشي.
ويُضاف إِلى هذه التُّهمة، فعل فسادٍ آخر، يتعلّق بنقل مُباريات كأس العالم 2018، عبر وزارة الإِعلام، وعلى حساب شركتي "تاتش" و"ألفا". ومِن ثمّ، يُكمل أَحد التّقارير المُتلفزة، بالإِشارة إِلى أَنّ في "الوكالة الوطنيّة للإِعلام" 250 مُتعاقدًا، رواتبُهم 9 مليار ليرة سنويًّا، وهي تتراوح للفرد منهم بين مليون ونصف، وثلاثة ملايين ليرة شهريًّا، وهؤلاء يعملون في مؤسّساتٍ أُخرى، وإِنتاجيّة الوزارة لا تُوازي ما يُخصّص لها مِن أَموالٍ... ويُكمل التّقرير: "يعتبر هؤلاء أَنّ إِنهاء خدمات الإِعلاميّين جريمةٌ إِنسانيّةٌ"، ليخلُص إِلى الدّعوة إِلى "إِلغاء وزارة الإِعلام"...
غير أَنّ السّؤال الأَكبر هو في شأن تاريخ إِعداد التّقرير التّلفزيونيّ المُشار إليه، أَي في 12 تشرين الثّاني 2020، وكأنّ الأُمور هي اليوم على أَحسن حالٍ في الجمهوريّة اللّبنانيّة، وأَن كُلّ الوزارات تُنتج، ما عدا وزارة الإِعلام... وبالتّالي فلا فساد في الجمهوريّة اللّبنانيّة سوى "فضيحة" نقل مباريات كأس العام على حساب الـ"أَلفا" والـ"أَم –تي–سي"... فلماذا الحديث اليوم، عن نقل مُبارياتٍ أُجريت في العام 2018؟، وما هذه الغيرة على شركتين، ولماذا "العتب" على مُبادرةٍ من الشّركتَين –لامتصاص النّقمة ربّما وتلميع الصّورة– تكمُن في دفع رسوم نقل مُباريات كرة القدم و"فشّ خلق" اللّبنانيّين لمرّةٍ واحدةٍ؟.
وأَمّا الصّحافيّون في "الوكالة الوطنيّة للإِعلام" المُشار إِليهم في التّقرير، فهُم يُغطّون أَخبار كُلّ لبنان، ويتوزّعون على المكاتب الإِعلاميّة في كُلّ المُحافظات، إِضافةً إِلى المُحرّرين ورؤساء الفترات والتّقنيّين... فيما تنتظر أَخبار "الوكالة" كُلّ وسائل الإِعلام المحليّة، العاجزة عن تغطيةٍ شاملةٍ للأَخبار المحليّة بسبب النّقص في عدد المُراسلين في الإعلام اللّبنانيّ الخاصّ... حتّى أَنّ والد مُعدّة التّقرير -رحمه الله- كان زميلًا عزيزًا وكفؤًا من كبار صحافيّي "الوكالة الوطنيّة للإعلام".
وقد سعى وزراء الإِعلام، إِلى الدّفاع عن الإِعلام الخاصّ، دفاعهم عن وزارتهم والعاملين فيها. كما ولم يُنظر يومًا إِلى أَحدٍ مِن الزُّملاء الإِعلاميّين في المؤسّسات الخاصّة، إِلَّا مِن منظار الزّمالة في الإِعلام الشّريف صاحب الرّسالة الوطنيّة الصّرف... وصحافيّو "الوكالة" لم يتوقّعوا يومًا أَن تُصوِّر زميلةٌ لهُم رواتبهم على أَنّها سبب "تفليسة" الجمهوريّة، وهي تكاد تكفيهم لتدبير أَبسط أُمورهم في هذا الظّرف العصيب... وهُنا الخطأُ الخُلُقيّ الجسيم الّذي وقعت فيه الزّميلة، في الحديث عن راتب صحافيّين بات اليوم لا يتجاوز الـ200 دولارٍ أَميركيّ شهريًّا، ويكاد يُصرف جزءٌ كبيرٌ منه، على طريق الذّهاب إِلى مركز عملهم والعودة منه... ولو كان هؤلاء فاسدون لما اضطُرُّوا إلى العمل خارج وزارةٍ لن تكفل لهُم في مطلق الأحوال أيّ مردودٍ بعد بُلوغهم السنّ القانونيّة، وقد وهبوها شبابهم وخبرتهم المهنيّة، والأهمّ الأهمّ، روحهُم الوطنيّة الجامعة!. ولو كانوا فاشلين أَو غير مُنتجين، لما أُتيحت لهم فرصة العمل خارج وزارة الإِعلام!.
إِنّ مِن غير المنطقيّ الادّعاء أَلَّا فساد في وزارةٍ واحدةٍ في الجمهوريّة اللّبنانيّة غير الفاضلة، غير أَنّ التّركيز على وزارةٍ محدودة المُوازنة ومعروفة المدخول، ولا إِمكان لتقاضي الرّشاوى فيها، وإِنّ تناسي المُؤسّسات الرّديفة لوزارات الدّولة مثلًا، حيث الإِهدار الحقيقيّ للمال العامّ، إِنّما هُما جزءٌ مِن تشتيت الانتباه إِلى "المرجع الصّالح" لفضح الفاسدين الحقيقيّين، أَو هو تضييعٌ للبُوصلة في مقاربة قضايا الفساد. فليس مَن يتقاضى راتبًا على أَساس عملٍ يقوم به هو الفاسد، بل ينبغي البحث عن الفساد في مَن يتقاضى ولا يعمل، علمًا أَنّ وزارة الإِعلام باتت تفقد سنويًّا الكثير من الزُّملاء الّذين يُحالون إِلى التّقاعُد، مِن دون أَن يكون في الإِمكان التّعاقُد مع صحافيّين جُدد، عملًا بقرار مجلس الوزراء في هذا الشّأن، حتّى بتنا نعيش في أَجواء أَغاتا كريستي في رائعتها "10 عبيد زغار"، حيثُ يتناقص عددنا، كما ويُعمل على التّجريح بنا، مِن أَعزّ الزُّملاء!.
لذا فإِنّ إِنهاء الخدمات الإِعلاميّة، كما وإِلغاء وزارة الإِعلام بالمُطلق، وفي خُطوةٍ إِرتجاليّةٍ أُخرى، إِنّما هُما جريمةٌ إنسانيّةٌ ووطنيّةٌ على حدٍّ سواء. إِذ ثمَّة قنابل مُسيِّلة للدُّموع ولكن من نوعٍ آخر... وهي ما أَلقته يومًا حُكومة سعد الحريري من خلال "الورقة الإِصلاحيَّة" في شأن "إِلغاء وزارة الإِعلام"... فقد ورد في "الورقة" المُشار إليها: "... المُوافقة على إِلغاء وزارة الإِعلام، وتكليف الجهات المعنيَّة إِعداد النُّصوص اللاَّزمة لذلك، في مهلةٍ أَقصاها 30/11/2019، مع حفظ حقوق المُوظَّفين وفق القوانين والأَنظمة المرعيَّة الإِجراء"...
للوهلة الأُولى، يظنُّ المرء أَنَّ الحكومة قد قطعت الطَّريق على "مغارة علي بابا والأَربعين لصًّا"، فيما هي قرَّرت إِلغاء واحدةٍ من الوزارات الأَقلَّ رصدًا للمُوازنة العامَّة السَّنويَّة، وهي –إِلى ذلك– كانت حينها تتحضَّر في العام 2020، لوداع نحو 20 مُتعاقدًا، يبلغون السِّنَّ القانونيَّة، وسيقبضون تعويض نهاية خدمةٍ من "الضَّمان الاجتماعيِّ"، فيما هم يُغذُّون "تعاونيَّة موظَّفي الدَّولة" من رواتبهم الشَّهريَّة المُقتطعة، ومن دون حقِّ الحصول على راتبٍ شهريٍّ تقاعديٍّ...
هل الهدف مِن إِلغاء وزارة الإِعلام، التَّعمية عن مكامن الإِهدار في غيرها من الوزارات، الَّتي حتَّى قُبيل الانتخابات النِّيابيَّة الأَخيرة كانت "تستقطب" المَزيد من المُوظَّفين الجُدد؟... وإذا كانت الحجَّة لإِلغاء الوزارة، أَنَّ "في الدُّول المُتقدِّمة لا وزارات إِعلامٍ، فأَين نحن في لبنان، من الدُّول المُتحضِّرة؟، وماذا عن لغة التَّخوين السّائدة؟ وإِصدار الأَحكام مِن دون أَدلَّةٍ؟ وشعار (كلُّن يعني كلُّن) التعمويّ؟...
إِنّ إِلغاء وزارة الإعلام هو إِلغاءٌ للصّوت الدّاعي إِلى التَّكاتُف والانْسجام بين أَفراد النّسيج الوطنيّ اللُّبنانيّ، وإِلى الحدّ مِن إِشاعة السَّلْبيَّات في شَكْلٍ واسعٍ بَيْن النَّاس... كما ويُؤدّي الإِعلام الرَّسميِّ دور تعزيز السِّلم الأَهليِّ وعدم شحن النُّفوس والعصبيَّات. ودوره يكمن أَيضًا في عدم نَشْر مُحْتَوياتٍ إِعْلاميَّةٍ تُضرُّ بِصُورة الوَطن داخليًّا وخارجيًّا، فيما بات الإعلام غير المسؤول، يَنْتهج أُسْلوب البَحْث عن الإِثارة، لرَفْع نِسب المُشاهَدة، وزِيادة حَجْم المَبيعات… فيما المَطْلوبُ اليَوْم إِعْلامٌ لا يَقِف عند عَتَبة "النَّق"، بل يُحْسن قَوْل الحَقيقة كَما هي، ومَهْما كانَت صَعْبة، ليُصارَ إِلى الإِصلاح.
وما أَحوجنا في لبنان إِلى المزيد من الثَّقافة السِّياسيَّة، والعودة إِلى القيم الوطنيَّة والمزايا الخلقيَّة والنَّقد البنَّاء، بدلاً من الاسترسال في الغوغائيَّة المُطلقة...