لم يجد العديد من المراقبين تفسيراً سياسياً لزيارة وزير الخارجية الاميركية مايك بومبيو لسبع دول أوروبية وشرق أوسطية سوى أنّها تصبّ في سياق الحسابات الأميركية الداخلية. وبمعنى أوضح، بدأ الرئيس الاميركي دونالد ترامب التحضير منذ الآن لترشحه لرئاسة الجمهورية المقبلة في العام 2024. هو لذلك دعا أنصاره للتجمّع في واشنطن، حيث مرّ لتحيّتهم من خلال السيارة الرئاسية «الوحش»، وهو أسلوب غريب عن الحياة السياسية الأميركية، وأقرب ليكون من أسلوب زعماء العالم الثالث.
وبومبيو الداعم لترامب، والذي يفكر بأن يكون البديل في حال لعب تقدّم العمر لترامب كعامل سلبي ضدّه، باشر جولته من باريس العاصمة، التي شهدت علاقاتها بواشنطن الكثير من التعرجات والخلافات. لذلك، أعلنت المصادر الرسمية الفرنسية، أنّها وافقت على استقبال بومبيو بناءً على طلبه، وبشفافية كاملة في تواصلها مع الرئيس المنتخب جو بايدن. ذلك أنّ معلومات تحدثت عن وصول مستشار بايدن للشؤون الخارجية انطوني بلينكن الى باريس بعيداً من الاعلام.
وليس مألوفاً ان يقوم وزير خارجية أميركية بجولة واسعة خلال المرحلة الانتقالية، ومن دون التنسيق مع الرئيس المنتخب. لكن بومبيو الذي سيلتقي بالرئيس الفرنسي ووزير خارجيته، سيتطرق الى العديد من الملفات الدولية، كمثل الصراع الحاصل مع تركيا والملف الروسي والوضع الاوروبي الخ...
لكن ثمة من لا يستبعد أن يجري التطرق الى الوضع اللبناني، خصوصاً وأنّ الاجتماع مع بومبيو سيتزامن مع ترؤس ماكرون اجتماعاً مع مستشاره العائد من لبنان باتريك دوريل وخلية الازمة اللبنانية.
وفي دليل واضح على انّ الهدف الاساس لزيارة بومبيو اميركي داخلي، محطته في تركيا، حيث سيكتفي بزيارة اسطنبول من دون لقاء المسؤولين الاتراك في أنقرة، والاكتفاء بلقاء زعيم الأقلية الارثوذكسية اليونانية تحت شعار «دعم ترامب القوي للحرّيات الدينية». وقد يكون الرئيس التركي اردوغان أراد أيضاً، بعدم لقاء بومبيو، توجيه رسالة تودّد الى الرئيس المنتخب جو بايدن، بعدما تأخّر كثيراً في تهنئته بفوزه.
ذلك أنّ بايدن، ومن خلال موقعه كنائب للرئيس، كان زار تركيا لأربع مرات بين العامين 2011 و 2016، وهي الفترة التي شهدت اندلاع الأحداث في سوريا. وخلال تلك الزيارات بدا الود مفقوداً بين اردوغان وبايدن مع اثارة العديد من الملفات الصعبة مثل تلك المتعلقة بشمال سوريا وموضوع «داعش»، والدعم العسكري واللوجستي الاميركي للأكراد، الذين يحظون بدعم واضح من بايدن. واردوغان حصل على الضوء الاخضر للتوغل في شمال سوريا خلال ولاية ترامب، ما جعل الجيش التركي على تماس مباشر مع الأكراد. وكان اردوغان يشتكي إدارة اوباما بأنّها أرسلت مئات لا بل آلاف الشاحنات المليئة بالأسلحة للأكراد.
كذلك، لا بدّ من الاشارة الى انّ محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا ضدّ اردوغان إنما حصلت في اواخر ولاية اوباما في آب 2016. أضف الى ذلك، أنّ هنالك من يسوّق لإنشاء قاعدة عسكرية اميركية بديلة عن قاعدة انجرليك، تتولّى الامارات دفع تكاليفها. لكن نائب الرئيس التركي فؤاد اقطاي قال، بأنّ الحقائق على الأرض هي التي ستفرض الأولويات، وبالتالي، فإنّ انتخاب بايدن لن يغيّر في الوقائع الميدانية.
في الواقع، فإن العديد من المراقبين يحاذرون من الخلط بين مفهومين. فالعالم تغيّر منذ أربع سنوات وحتى الآن، ولترامب الفضل الكبير بذلك. وبالتالي، فإنّ العالم الذي تركه بايدن، منذ أربع سنوات لم يعد كما كان. ولذلك، فإنّ ولايته لن تكون الولاية الثالثة لأوباما.
ومع ذلك فإنّ بايدن الذي يتجّه لإعادة حرارة العلاقة مع اوروبا والذي سيعزز علاقته باليونان، قد لا يذهب الى علاقة دافئة مع تركيا. ربما سيلعب على التوازنات الاقليمية بين تركيا وايران واسرائيل.
وزيارة بومبيو الطويلة تستمر لعشرة ايام، وتشمل سبع دول هي: فرنسا، جورجيا، اسرائيل، الامارات، قطر، السعودية وتركيا.
وتبقى المحطة الاسرائيلية هي الأكثر إثارة، خصوصاً وأنّ المسؤول عن الملف الايراني اليوت ابرامز كان استبق وصول بومبيو ليمهّد لها، وهو المعروف بأفكاره وتوجيهاته المتشدّدة تجاه ايران. وكان نافراً ان يتضمن برنامج رحلة بومبيو زيارة الى الجولان والضفة الغربية.
ومنذ العام 1967 تعاملت جميع الادارات الاميركية مع الضفة والجولان على أساس أنّها أراضٍ محتلة، وكسر هذه القاعدة دونالد ترامب.
وبالتالي، سيكون بومبيو أول وزير خارجية سيزور أراضي يعتبرها المجتمع الدولي محتلة بشكل غير قانوني. وهو بذلك يضع عائقاً امام بايدن، خصوصاً انّ لديه تاريخاً طويلاً في معارضة المستوطنات، والمؤمن بأنّ حلّ الدولتين سيجعل اسرائيل اكثر أماناً وقوة.
الأرجح أنّ بايدن سيستأنف دعوته لحلّ يقوم على أساس الدولتين. لكن سيبقى ذلك في إطار الكلام لا الفعل، لأنّ احتمال قيام بايدن بالضغوط الفعلية لتنفيذ انسحابات من الضفة وتفكيك المستوطنات شبه معدومة.
كذلك لا بدّ من استعادة ما دعت إليه نائبة بايدن كامالا هاريس، بأنّه من الخطأ إعادة فتح مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن واستعادة أموالهم، من دون القيام بتنازلات، تقتضي بالامتثال لقانون «تايلور فورس» الاميركي، الذي يُلزم بوقف دفع مبالغ مالية لعائلات الشهداء الفلسطينيين، وأنّه لا ينبغي اعادة تمويل منظمة «الاونروا» ما لم يتم تغيير تعريف اللاجئين الفلسطينيين واعطاء الاولوية لتوطينهم، وهنا الخطر على لبنان.
وفيما وصف بايدن نفسه بأنّه صهيوني، فإنّ الحكومة الاسرائيلية، ورغم إصابتها بالصدمة بسبب سقوط ترامب، فإنّها تتحضّر لتعيين سفير جديد لها هو جلعاد اردان مكان السفير الحالي المقرّب جداً من نتنياهو ومن ادارة ترامب. والسفير الجديد معروف بعلاقاته القوية والمتشعبة مع الحزب الديموقراطي.
تبقى النقطة المتعلقة بسحب الجنود الاميركيين من افغانستان وسوريا والعراق. وهي في الشكل وفاء لوعد التزم ترامب بتحقيقه قبل نهاية السنة. ولكنها في الواقع سعي لنشر الفوضى بوجه ادارة بايدن. ذلك انّ الرئيس المنتخب يرى انّ هنالك صعوداً للإسلام السياسي في الشرق الاوسط تتزعمه تركيا وتموّله قطر، في مقابل سعي ايران لتثبيت نفوذ محورها. واذا أخْلت واشنطن الساحة بالكامل، فهي قد تجازف بإمكانية حصول اتفاق او تقاطع مصالح لتقويض المصالح الاميركية. وعلى الرغم من وجود تفاهمات سرّية مع حركة طالبان في افغانستان، الّا انّ التجارب اثبتت انّه لا يمكن الوثوق بها.
في الواقع، فإنّ بايدن يريد انسحاباً ولكن جزئياً، ويضمن ترك قوة صغيرة للتدخّل السريع وللمراقبة.
وكذلك يريد إبقاء قوة في سوريا تراقب الممر البري من ايران الى لبنان. وفي الواقع فإنّ الطاقم العسكري الاميركي اقرب الى وجهة نظر بايدن، ويعارض الانسحاب الكامل لترامب.
وقد تقف ايضاً البيروقراطية الموجودة في البنتاغون عائقاً امام اتمام الانسحاب الكامل في اقل من 70 يوماً.
وكان لافتاً كلام رئيس هيئة الاركان المشتركة الاميركية الجنرال مارك ميلي، والذي أبدى فيه اعتراضه على استبدال كبار المسؤولين المستقيلين من وزارة الدفاع بآخرين محسوبين على ترامب. وقال خلال وقوفه الى جانب وزير الدفاع بالوكالة كريستوفر ميللر: «نحن لا نقسم يمين الولاء لفرد أو بلد أو قبيلة أو دين. نحن نقسم يمين الولاء على الدستور، وسوف نحمي تلك الوثيقة وندافع عنها بغض النظر عن الثمن الشخصي».
باختصار، هنالك الكثير من الفوضى الداخلية أمام إدارة بايدن، وكثير من الفوضى الخارجية وفي الشرق الاوسط، حيث لا بدّ من التخوّف بالمزيد منها.