بات من الواضح، أكثر من أيّ وقت مضى، الرابط بين الشروط الأميركية والعراقيل الحقيقية التي تحول دون تشكيل «حكومة توافقية» في لبنان.. فما حصل في الآونة الأخيرة يؤكد الدخول الأميركي على خط عرقلة ولادة الاتفاق على تأليف الحكومة الجديدة، الذي تمّ التوصل إليه، بين الرئيس المكلف لتأليف الحكومة سعد الحريري ورئيس الجمهورية العماد ميشال عون.. وتجسّد التدخل الأميركي بما يلي:
أولاً، قرار فرض العقوبات الأميركية على رئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل والذي جاء توقيته عشية الحديث عن وضع اللمسات الأخيرة على تشكيلة الحكومة وإسقاط أسماء الوزراء الذين سموا من قبل الكتل النيابية على الحقائب الوزارية الـ 18 التي ستتشكل منهم الحكومة.. قرأ الرئيس الحريري الرسالة جيداً وعمد إلى ترجمتها بالتراجع عن اتفاقه مع رئيس الجمهورية وإعلانه أنه هو من سيسمّي الوزراء المسيحيين وليس عون والتيار الوطني.. ما يعني تطيير الاتفاق والعودة إلى نقطة الصفر في التأليف.. من المعروف أنه لا يمكن لفريق الأغلبية النيابية ان يمنح الرئيس الحريري حق التفرّد بتشكيل حكومة اختصاصيين وتسمية وزرائها، لانّ ذلك يعني الموافقة علي تسليمه السلطة التنفيذية واستطراداً تحقيق هدف الأميركي بالانقلاب على المعادلة السياسية عبر الإمساك بناصية القرار الحكومي وتحقيق الأهداف الأميركية، التي تبدأ بتلبية شروط الاستدانة من صندوق النقد الدولي، مروراً بالاستجابة للشروط الإسرائيلية لتحديد الحدود البرية، وتنتهي بطرح نزع سلاح المقاومة بدءاً بالصواريخ الدقيقة التي تردع العدوانية والأطماع الصهيونية..
ثانياً، بعد ذلك بأيام من قرار العقوبات، وفي خلال زيارة مبعوث الرئيس الفرنسي دوريل للبنان وحوّلته على المسؤولين والأطراف السياسية لحثهم على تنفيذ المبادرة الفرنسية وتشكيل الحكومة، سارعت السفير الأميركية دوروثي شيا إلى إطلاق تصريح نافر في استنفزازيته وتدخله في شؤون لبنان الداخلية فقالت.. «شرطنا لمساعدة لبنان في مواجهة فيروس كورونا كان الابتعاد عن وزارة الصحة لقرب وزير الصحة من حزب الله، والتعامل مع مؤسّسات صديقة وموثوق منها كالجامعة الأميركية والجيش اللبناني». و»لم ندعم الحكومة الأخيرة لأنّ الذي شكّلها هو حزب الله، لكننا وقفنا الى جانب الشعب اللبناني وسوف نرى ماذا سيكون شكل الحكومة المقبلة لتحديد موقفنا». و»سوف نصرّ على مواقفنا، وإذا لم نفعل ذلك فسيعودون الى فسادهم ولا أحد سوف يساعدهم بتاتاً الا إذا رأينا تقدّماً خطوة بعد خطوة، ولن يكون هناك أيّ شيء مجاني بعد اليوم».
هذا الكلام قطع الشكّ باليقين وأوضح هدف توقيت العقوبات على باسيل، بأنه ممنوع على الرئيس الحريري أو غيره من المحسوبين على فريق 14 آذار تشكيل حكومة يشارك فيها حزب الله وحلفاؤه.. وان الحكومة المقبولة أميركياً إنما هي حكومة اختصاصيين قادرة على تنفيذ الأجندة الانقلابية الأميركية..
ماذا يعني هذا التدخل الأميركي المستمرّ في وضع العراقيل أمام تشكيل الحكومة؟
1 – انّ المسألة لم تعد تحتاج إلى تمحيص وإمعان التفكير لمعرفة من يعــيق ولادة حكومة جديدة وفق ما ينص عليه الدستور ونتائج الانتخــابات النيابية.. لكن المسالة ليست فقط في التدخل الأميركي، إنما أيضــاً في الأطراف المحلية التي تستجيب وتقبل بهذا التدخل وترضــخ للإمــلاءات الأميركية.. فلــو كان الرئيس الحريري رفض الخضــوع للأمر الأميركي لكــنا شهدنا ولادة الحكومة، ولما كان أصلاً قد استقالة حكومة الحريري اثر أحــداث 17 تشــرين، ولكنا تجنّبنا الانهيار الاقتصادي والخسائر الكبيرة التي لحقت بالاقتصاد وبقيمة سعر الليرة..
2 – انّ من يريد إنقاذ البلاد من التدهور المستمرّ على المستويات كافة الاقتصادية والمالية والنقدية والاجتماعية عليه أن يقف ضدّ التدخل الأميركي وضدّ الأطراف التي تشكل حصان طروادة لهذا التدخل..
3 – انّ الرهان على الخــروج من الأزمة التي يرزح فيها لبنان من دون التحرّر من الهيمـــنة الأميركــية ورفــض التبعــية للولايات المتحدة.. إنما هـــو رهان عقيم.. لانّ سبب استمرار الأزمة إنما يعود إلى استــمرار ارتهان أطراف لبنانــية للسياسة الأميركية التي هي سياســة إســرائيلية تستهدف العمل على إخضاع لبنان للشروط الصهيونية القــاضية بنزع سلاح قوتــه المتــمثّل بسلاح المقاومة حتى يتمكن كيــان العدو الصهيوني من إعادة إخضاع لبنان وفرض الاستــسلام عليه بتوقيع اتفاق صلح واعترف بـ «إســرائيل» وقبول مشروع تصفية القضية الفلســطينية عبر توطــين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان والتخلي عــن المــطالبة بعودتــهم إلى ارضــهم التي شردوا منها..
4 – انه حتى لو شكلت حكومة وفاق، بعد أن يكون الأميركي يأس من إمكانية تحقيق انقلابه السياسي، فانها ستكون حكومة مساكنة أو تعايش بين الفريق الوطني والفريق الأميركي، ولهذا لن تكون حكومة حلّ للأزمات، بل حكومة إعادة إنتاج التسوية ونقل الصراع إلى داخل مجلس الوزراء..
5 – لا يمكن الفصل بين المعركة ضدّ العدو الصهيوني المحتل وبين المعركة ضدّ الوصاية الأميركية والتصدي لسياسة الحصار المالي والاقتصادي وإرهاب العقوبات التي تفرضها التي المتحدة على لبنان، فالمعركة واحدة لا تتجزأ لان أميركا هي «إسرائيل»، و»إسرائيل» هي أميركا، فالمبت والمنشأ واحد والأهداف الاستعمارية واحدة، ومن يريد أن يعيش بحرية وكرامة عليه خوض هذه المعركة والتمسك بالمقاومة وسلاحها لتحرير الأرض واستعادة الحقوق وتحقيق الاستقلال الوطني الذي لا يتحقق الا بالتحرر من التبعية للولايات المتحدة والدول الغربية الاستعمارية..