يبقى منظر المرأة الفلسطينية التي احتضنت شجرة الزيتون في وجه الجرافة الإسرائيلية العازمة على اقتلاعها في ضمير كلّ من شاهد هذه اللحظة ودُهش لتصميم امرأة أن تواجه جريمة الاحتلال مع شجرتها المقدسة وألا تتركها وحيدة في هذه المعركة غير المتكافئة. كانت لغة جسدها تقول "نعيش سوياً أو نموت سوياً" مع دفق من الحب والحنان بنبض من جسد المرأة لينسكب على جسد الشجرة التي لاتقلّ عنها عمراً وجمالاً وأصالة وتجذّراً في تلك الأرض الطيبة؛ بحيث أصبحت معركة شجر الزيتون معركة وطنية شارك فيها أبناء الشعب الفلسطيني الذين واجهوا جريمة اقتلاع أشجار زيتونهم العريقة والمعمّرة بتكثيف حملاتهم لزراعة المزيد من شجر الزيتون في محاولة لمواجهة أثر الجرائم الإسرائيلية المرتكبة بحقّ هذه الشجرة المقدسة والانتصارعلى هذا الإجرام. وإذا كان للزيتون مكانته في القرآن الكريم "والتين والزيتون" والشجرة التي تنبت في طور سيناء وإذا كان غصن الزيتون قد أصبح رمزاً للسلام في العالم فإن عمر شجر الزيتون أيضاً في بلداننا منسجم مع عراقة وحضارة هذه البلاد وجذورها الضاربة في القدم وهذا هو سبب أحد أوجه الحقد الأعمى من قبل المحتلين والمستعمرين والطامعين على هذه الشجرة المباركة والتي تحمل نسغ الحياة ونسغ الحبّ ونسغ السلام وخصوصية الأرض والمناخ والسكان والتاريخ. ربما ولكلّ هذا نجد اليوم حقداً وحسداً استعمارياً آخر لايقلّ شناعة وبشاعة عن إجرامهم الصهيوني في فلسطين ينطلق من عفرين السورية وأرضها الطيبة حيث اقتلعت جرافات الاحتلال التركي، البغيض والمنافق والأشدّ كذباً بين أنظمة العالم برمتها، اقتلعت أشجار الزيتون المعمّرة من الأرض السورية الطيبة محمية بقوة السلاح ونقلتها وفي وضح النهار على الشاحنات إلى تركيا طمعاً بتلمس جزء من هذه العراقة والقدم ولكن هيهات منهم ذلك ؛ فقد رأيت أوراق أشجار الزيتون المحملة على الشاحنات ترنو إلى عفرين ويتجه نبضها بعكس سير الشاحنة لأنها تزدهر بهواء عفرين وتحت سماء عفرين وبشمس عفرين كما أنها تنمو تحت الأنامل العربية الطيبة التي تتقن احتضانها والتحدث إليهاوتلمس حاجاتها صباحاً ومساءً حين يغدون إلى الحقل وحين يروحون ولن تعيش في تربة غريبة قاسية متجبرة لا علاقة لها بهذا التاريخ وكلّ هذا الإرث الممتدّ بين الأرض والسماء وعلى أرض سورية . كم تمنيت لو أن أحداً عرض صور هذه الشاحنات أمام مولود تشاووش أوغلو الذي كان يتحدث في أنقرة عن محاربة الإرهاب في سورية في مؤتمر للسفراء وأن يقال له أي إرهاب أشد وأقسى من اقتلاع الأشجار وتفكيك معامل حلب وسرقة الآثار والممتلكات والمتاجرة بحياة السوريين الذين حولتهم سياسة حكومتك إلى لاجئين من أجل ابتزازهم وابتزاز الدول الأوروبية أيضاً من خلال التلويح بفتح بوابة اللاجئين من تركيا عليهم. إن منظر أشجار الزيتون المحملة على شاحنات الاحتلال التركي كمنظر الجرافة الإسرائيلية المهددة للشجرة والمرأة الفلسطينية، هذان المنظران يكذّبان بما لايقبل الشك كل ما يتلفظ به الاحتلال التركي والإسرائيلي وكل ما يدّعونه من أهداف أخرى وراء ارتكاب جرائمهم هذه التي لا تغتفر. والتقاطع بين مايقوم به الاحتلال التركي على الأرض السورية وبين ما يقوم به العدو الإسرائيلي على أرض فلسطين الطاهرة لا يتوقف هنا أبداً؛ فسرقة الأثار وتغيير ملامح الأرض واللغة والتغيير الديمغرافي وإصدار بطاقات من قوات الاحتلال والهيمنة اللغوية والثقافية والإدارية كلها إجراءات متماثلة ومتشابهة وتنطلق من الأهداف ذاتها ألا وهي الطمع في هذه الأرض الخيّرة وهذه البلاد العريقة ومحاولة سلب ونهب كل ما تحتويه من إرث عريق مادي ومعنوي. وهنا بالذات يكمن سرّ الحملات العدوانية المستمرّة منذ ألف عام على بلداننا والاستعمار الأجنبي الذي تعرضنا له طوال قرون والإرهاب الذي مازال يُستخدم كوسيلة لزعزعة أمننا واستقرارنا ألا وهو طمعهم فيما حبانا الله به من ثروات مادية ومعنوية وجغرافية ومناخية لأن كل ما يمارسونه من سرقة ونهب يبرهن على أن هذا هو الهدف الأساسي الذي أتوا من أجله والذي يستخدمون القوة العسكرية الضاربة لضمان تحقيقه والوصول إليه. أطماعهم وسرقاتهم تفضح كلّ ما يتشدّقون به من أكاذيب وتبريرات لأعمالهم الشنيعة؛ فالكذب أسلوب معتمد لديهم للوصول إلى هذه الأهداف. فبعد تسع سنوات من الحرب على سورية تكشف الدوائر البريطانية عن مليارات الجنيهات أنفقت في حرب إعلامية لتضليل السوريين والمجتمع الدوليحول مجريات الأحداث في سورية. وهاهو جيمس جفري يعترف بعد أيام من استقالته بالأكاذيب التي روّجوها حتى لقادتهم عن عديد قواتهم في سورية، ولو كان الإعلام كما كان أثناء حرب فيتنام يتبع أسلوب التقصّي والتحقيق لاكتشف العالم برمته أن كل ادعاءات العثماني الجديد والأميركي المتغطرس وكل تصريحاتهم عن أسباب تدنيسهم للأرض السورية لا علاقة له بالواقع المعاش ولا بالأهداف الدنيئة والمجرمة التي يحققونها من خلال هذا التواجد.ولكن السؤال المختلف الذي أودّ أن أطرحه في الختام هو: "ألم يقتنع أبناء جلدتنا اليوم أن أسباب الأحداث التي تتوالى على بلداننا من فلسطين إلى العراق وسورية ولبنان واليمن وليبيا والسودان هي الطمع في خيرات هذه البلدان؟ ألم يحن الوقت أن يقتنع الجميع بأن هذه القوى الغربية والعثمانية والصهيونية لاتريد خيراً لشعوبنا، وتجربة الشعب العراقي والليبي واليمني خير دليل، ولا تريد لها حرية ولا ديمقراطية ولا رفاهاً بل سرقة ونهباً لمقدراتنا ودفعاً بنا عقوداً إلى الخلف كي لا نمتلك الأدوات السليمة لحماية هذه البلدان وهذه الثروات من أطماعهم وأساطيلهم العسكرية التي تسرقنا في وضح النهار وبقوة السلاح. كم زرع المستعمر من مفاهيم خطيرة ومن عقد نقص كارثية في نفوس البعض كي يموتوا ويحيوا وهم مقتنعون أن المستعمر لديه الأفضل وأن قدومه سيشكل بركة وازدهاراً لايمكن لغيره أن يستقدمه على بلداننا. إن فكرة الكثيرين حتى من بعض المثقفين عن بلدانهم صاغها مستشرقون من وجهة نظر استعمارية بحتة وتوارثوها هنا جيلاً بعد جيل، وكان لمركّب الشعور بالنقص تجاه المستعمر وعدم الاحترام لجذورنا وتاريخنا وممتلكاتنا كان لكلّ هذا أبشع الأثر في توليد أجيال من المتواطئين مع الأعداء ضد مصلحة بلدانهم، ربما ظناً منهم أنهم بذلك يخدمون بلدانهم أو طمعاً بما يقدمه الآخر لهم من منفعة شخصية. فلدى قراءة تاريخنا نكتشف أن معظم البلاء قد تسبب به هؤلاء المخترَقون المتعاونون مع الأعداء والخائنون لمصلحة بلدانهم سواء أدركوا ما يفعلونه أم لم يدركوا؛ فلم يكن سبب انكسار هذه الأمة القوة الخارقة لأعدائها بل ضعف إيمان بعض أبنائها بها وارتهانهم لإرادة الأعداء وخدمة مخططاتهم. طريق النجاح اليوم خطّته المرأة الفلسطينية البطلة التي واجهت الجرافة الإسرائيلية وأنقذت شجرة الزيتون، وخطّه أبناء سورية الأوفياء الذين ضحوا بدمائهم لتبقى أرضهم حرة وعزيزة، وهذا هو الطريق الوحيد نحو بناء مستقبل آمنومزدهر وكريم لأبنائنا واحفادنا من بعدنا.