يُظهر الفرنسيون إنزعاجاً واضحاً من قوى سياسية لبنانية يعتبرون أنها تعطّل تأليف الحكومة. يبدو الإنزعاج الفرنسي من خلال المواقف، وخصوصاً بعد اجتماع وزيري الخارجية الأميركي والفرنسي في الساعات الماضية، والإجراءات المرتقبة التي بانت مؤشراتها في قرار تصغير حجم المؤتمر المالي المقرر عقده خلال نهاية الشهر الجاري دعماً للبنان. إذا كانت باريس تهدّد بعقوبات وتلوّح بنفض يدها من الملف اللبناني، فإن هناك إعتقاداً يسود في لبنان: لا مصلحة لفرنسا بسحب مبادرتها ولا التخلّي عن هذا البلد في ظل وجود تمدّد تركي واضح في ساحات الإقليم. لم يعد هناك من مساحة لوجستية آمنة لفرنسا في شرق المتوسط افضل من لبنان. علماً ان باريس تستفيد من نفوذها في هذا البلد، سياسياً واقتصادياً من خلال المشاريع المرتقبة في مرفأ بيروت وشركات الإتصالات، ونفطياً في المرحلة المقبلة بعد البدء في سحب الغاز من آبار المياه الإقليمية اللبنانية.
لكنّ الإعتقاد المُشار إليه لا يكفي للجزم أن باريس مضطرة للرضوخ أمام شروط قوى لبنانية بشأن تأليف الحكومة. ثمة إعتقاد أوروبي أن فرنسا باتت أقوى دولياً مما كانت عليه: صار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أكثر إرتياحاً نتيجة فوز جو بايدن بالإنتخابات الرئاسية الأميركية. يشير إلى ذلك الإتصال الذي جرى بين بايدن وماكرون، وهو الأول من نوعه للرئيس الأميركي المنتخب مع رئيس دولة أخرى. بعد ان حكم التوتر علاقات الرئيس الأميركي الحالي دونالد ترامب وماكرون طيلة الفترة السابقة. كما أن دول الخليج لا تستطيع أن ترفض طلباً فرنسياً بعد خسارة حليفها ترامب في الإنتخابات. لم يعد هناك سندٌ دولي وازن لتلك الدول بعد فوز بايدن الذي لا يستسيغ العلاقات المميزة مع العواصم الخليجية. مما يعني أن ماكرون سيكون الوسيط القادر على تسوية الخلافات والتباينات بين العرب والبيت الأبيض.
الأهم أن إيران تحتاج الى حفظ علاقاتها الجيدة مع فرنسا. سيكون ماكرون قادراً على تسويق أي مشروع تسوية مع طهران، خصوصاً أن الدور الفرنسي كان إيجابياً تجاه الجمهورية الإسلامية، والأخيرة تحفظ لباريس حُسن أدائها سابقاً بعد فرض عقوبات أميركية على إيران. فهل ستقف إيران ضد الفرنسيين؟ صحيح أن علاقة طهران مع أنقره قائمة على أرضية تحالف متين في الإقليم، لكن التمدد التركي لن يريح إيران على المدى البعيد، وهي بحاجة الى إمساك لعبة التوازنات الدولية لما فيه مصلحة الجمهورية الإيرانية. علماً أن حلفاء طهران الأساسيين، خصوصاً سوريا، يشكون من الأدوار التركية السلبية في ساحات دولهم. لم تُظهر أنقره أي نوايا طيبة تجاه دمشق حتى الساعة، لا بل ان المساعي التركية تدور حول وراثة الأميركيين الذين باشروا بسحب قواتهم العسكرية من سوريا والعراق وأفغانستان.
من هنا يُصبح الدور الفرنسي مهماً إستراتيجياً. لذا، تتكثّف الدعوات لعدم سحقه في لبنان ضمن حسابات وزارة أو إسم وزير. لا يعني ذلك أن يكون الدور الفرنسي غير متوازن أو لصالح فريق على حساب فريق آخر. فهل تحصل المسارعة اللبنانية لإستدراك الأمور قبل إنتهاء مبلغ المليار وتسعمئة مليون دولار-القيمة المالية المتبقية للصرف في حساب مصرف لبنان، قبل المس بالإحتياط البالغ ١٧ مليار دولار؟.
لن يقتصر الأمر على وقف الدعم المالي للبضائع والحاجات اللبنانية، بل يطال قدرة لبنان بشكل عام في دولة ستذهب الى "العصر الحجري" على حد وصف نائب رئيس المجلس النيابي ايلي الفرزلي. من هنا تُصبح الحاجة لدور فرنسي يسعى لجذب الأموال وإعادة الثقة بالدولة اللبنانية. سيكون اللبنانيون ممتنين لفرنسا التي تبيّن ايضاً انها باشرت بدعم الطلاب اللبنانيين الموجودين على أراضيها بتقديم مبلغ ٥٠٠ يورو لكل طالب لبناني شهرياً، مع دفع التسجيل الجامعي عنه. أي ان فرنسا ترعى تعليم اللبنانيين في مؤسساتها العلمية وهي لا تميّز بين طالب وآخر. لذا، يقول العالمون بسياساتها أنها لا تميّز بين فريق وآخر في لبنان، وهنا يكمن الرد على من يتهمها بأنها تنحاز للحريري في ملف تأليف الحكومة.