لم يسبق للولايات المتحدة في العقود الأخيرة أن مرّت بما تعانيه اليوم من إرباك واضطراب وتقلّب وانقلابات في داخلها كما هي عليه اليوم، انقلابات تترجم بتصرفات متعدّدة بدءاً بعمليات التطهير في وزارة الدفاع ومديريّات ومكاتب الأمن والاستخبارات مقرونة بالتهديد بعدم الاعتراف بنتائج الانتخابات والتلويح بقرارات عسكرية خطيرة تشمل إمكانيّة شنّ عدوان على جبهة أو أكثر من جبهات «أعداء أميركا» الصريحين أو المستترين، كما تشمل احتمالات الانسحاب من هذه المنطقة او تلك من العالم خاصة من آسيا الوسطى وغربي آسيا، والتلويح أيضاً بقرارات أخرى يلجأ إليها في تسارع يبدو كأنه سباق مع الزمن، الزمن الذي لم يتبق منه دستورياً لترامب إلا شهرين يكون ملزماً في نهايتها أن يحترم القرار الذي نطقت به صناديق الاقتراع وان يخرج من البيت الأبيض ليسلم المسؤولية للخلف.
أما لبنان فيبدو أن نصيبه من تداعيات الإرباك الأميركي والنزعة للانتقام و»جنون» الساعات الأخيرة من ولاية ترامب وعدوانية وزير خارجيته بومبيو، يبدو أن نصيب لبنان لن يكون بسيطاً، مع تصرف الإدارة الأميركية بشكل يوحي وكأن لبنان يحتلّ لديها، مرتبة متقدّمة بين الدول العظمى التي تنافس أميركا على دورها وموقعها العالمي، حيث بات للبنان هذا الموقع كما يبدو، منذ أن كانت خطة بومبيو المشؤومة التي أطلقت في آذار 2019 لتدمير لبنان بشكل يمكنه من تدمير حزب الله ليريح «إسرائيل».
لقد تضمّنت خطة بومبيو، كما بات معلوماً وبشكل واضح مراحل خمساً، تبدأ بالفراغ السياسي وتنتهي بالعمل العسكري التدميري، مروراً بالإنهاك المالي والانهيار الاقتصادي والخلل الأمني، كلّ ذلك من أجل التخلص من حزب الله ومن سلاحه، كما تجاهر أميركا.
بيد أنّ بومبيو ورغم كلّ ما سخر لخطته من قدرات سياسية وإعلامية مالية، ورغم انه استطاع ان ينجح في تنفيذ بعض مراحل الخطة الا أنه بقي بعيداً عن الهدف الأساس وهو حزب الله وسلاحه الذي بقي قوياً متماسكاً يسير في خط القوة الصاعد من دون أن تحدث خطة بومبيو مسّاً فعلياً بقدراته العسكريّة.
لقد توخّت أميركا إحداث فراغ سياسي في لبنان على مستوى الحكومة منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2019، يوم استقال الحريري من دون تنسيق او تشاور مع احد، ولما نجح لبنان في تشكيل الحكومة التي انطلقت للعمل المفيد جاء انفجار مرفأ بيروت – الانفجار المشبوه الذي لم تتضح خيوطه بعد بشكل يقينيّ قاطع يبعد شبهة اليد الأميركية والإسرائيلية – جاء انفجار بيروت ليطيح الحكومة ويعيد لبنان الى الفراغ الذي يواكب الانهيار النقدي والاقتصادي الذي يعاني منه لبنان تنفيذاً لخطة بومبيو التي استغلت واقع الفساد والنهب المنظم للأموال العامة، النهب الذي لم يتورّع أو يمتنع عن القيام او المشاركة فيه، إلا القلة القليلة ممن تولوا مسؤولية المال او الوظيفة العامة في لبنان وكان معظم الناهبين من عملاء أميركا وأدواتها في لبنان.
وبعد 20 شهراً على إطلاق بومبيو لخطته التدميرية في لبنان ورغم ما تحقق من هذه الخطة فيبدو انّ هناك شيئاً من قناعة أميركية توحي بأنّ الوقت المتبقي لن يكون كافياً لإكمال التنفيذ وتحقيق الهدف إذا استمرّ العمل بالوتيرة ذاتها، كما انّ أميركا باتت تخشى من إمكانية نجاح لبنان في الخروج من سلبيات ما تحقق من الخطة حتى الآن خاصة على صعيد الفراغ السياسي او المعالجة الاقتصادية او المالية، لذلك تعمل أميركا في لبنان بسياسة «انّ لم يكتمل تنفيذ خطة التدمير فعلى الأقلّ لا يسمح بإطلاق مسيرة الإنقاذ والتعمير»، ما يذكر بالسياسة الأميركية المعتمدة في سورية والتي تطلّبت قانوناً كاملاً لتنفيذها هو «قانون قيصر» الإجرامي من أجل منع إطلاق عملية إعادة بناء سورية بعد ان فشلت أميركا في إسقاطها والسيطرة عليها.
وعلى ضوء ذلك يجب أن يعرف المسؤولون في لبنان وعلى كلّ الصعد انّ سياسة التهويل الأميركي والتهديد والعقوبات التي تتوخى منها أميركا، كما تعلن في أكثر من مناسبة، عزل حزب الله ومحاصرته داخلياً وإسقاط شرعيته، هي سياسة تهدف في العمق الى تدمير لبنان انتقاماً من عدم رضوخه لـ «إسرائيل» ولاستمرار امتلاكه مكامن القوة بوجهها، وعليهم أن يدركوا انّ الاستجابة للأوامر الأميركية هي بمثابة انتحار للبنان يؤدّي الى تهجير شعبه وإسقاط دوره وإقفال الطرق امام محاولات إنقاذه.
وعلى هذا الأساس نرى انّ لبنان بحاجة اليوم أكثر من أيّ يوم مضى الى رجال رجال ليس لديهم ما يخشون عليه من أميركا ومن عقوباتها وتهديداتها، يحتاج لبنان لمن يقول لأميركا «لا« ومن يرى مصلحة لبنان تتقدّم أيّ اعتبار شخصي او غير شخصي.
على المسؤولين اللبنانيين أخذ العلم بالقدر اليقيني أن أميركا لن تسمح لهم بالخروج من الفراغ السياسيّ، ولن تسمح لأحد بما في ذلك فرنسا، المساعدة لمعالجة التردّي المالي والاقتصادي، ولو كان بإمكان أميركا الدخول فوراً وبشكل يضمن نجاحها في الإخلال بالأمن وتفجير الوضع الداخلي واقتياد لبنان الى حرب أهلية تسيطر هي فيها وتتحكم بمساراتها لما تأخرت في التفجير، لكن خوفها من إفلات زمام الأمور من يدها منعها حتى الآن عن المجازفة.
وعلى اللبنانيين أن يعتبروا انّ أميركا ستتصرف كعدو للبنان طالما أنّ لبنان يملك القوة التي تمنع «إسرائيل» من السيطرة عليه وتحقيق أهدافها فيه، وعلى المسؤولين في لبنان أن يدركوا هذه الحقيقة ويعملوا بموجبها، فإذا خشي المسؤول أيّ مسؤول على مصالحه من الغضب والعقوبات الأميركية فعليه أن يتنحّى وليس له ولا يُقبل منه أن يرضي أميركا ويُسكت غضبها ويتجنّب انتقامها بتقديم تنازل عن حق من الحقوق الوطنية لأجلها.
فإذا عمل المسؤولون بهذه الذهنية يمكن ان تشكل الحكومة في أيام ويمكن أن نجد السبل للمعالجة المالية الاقتصادية مع وجود من هو مستعدّ في العالم للمساعدة بدءاً من الصين، ويمكن أن نستمرّ في صيانة أمننا الداخلي ونحفظ معادلة القوة التي تحمي لبنان، أما إذا كان الخوف هو المسيطر على من بيده صلاحية الحل فإنّ لبنان سيستمرّ في تحقيق أهداف أميركا التدميرية ويسير اليها بقدميه.
أما أن تدّعي أميركا بأنها تعاقب هذا او ذاك من أجل إبعادهم عنه ومحاصرته أيّ حزب الله، فيبدو انه عرف جيداً ونظم جيداً وأتقن جيداً وضع الخطط واتخاذ التدابير التي تقول لأميركا «سياسة الضغوط القصوى» سترتدّ عليكم «خسائر قصوى». فالمقاومة باقية وتقوى لإفشال المشروع الصهيوأميركي في المنطقة، وكما حققت انتصارات 2000 و 2006 والانتصارات في سورية… فهي جاهزة لتقول على لسان قائدها «كما كنت أعدكم بالنصر دائماً فإني أعدكم بالنصر مجدّداً»، فهل يسمع المسؤولون اللبنانيون ذلك ويقدمون؟ نتمنى… ولكن لسنا متفائلين كثيراً…