بعض التحاليل السياسيّة لا تتوقّف عند تفاصيل الحياة السياسيّة اللبنانيّة الداخليّة، والتي أقلّ ما يُقال فيها إنّها سخيفة وتافهة مُقارنة بما يحصل في المنطقة من تحوّلات إستراتيجيّة، وتذهب مُباشرة إلى صلب الموضوع، وتحديدًا إلى ما تصفه بمُؤامرة دَوليّة لإسقاط لبنان بشكل مُتعمّد، ما لم يخضع لجملة من الشروط القاسية التي من شأنها أن تُغيّر طبيعة لبنان وتوازناته وديموغرافيّته ودوره في الشرق الأوسط إلى الأبد. فهل هذه النظريّة حقيقة أم وهم؟!.
بداية، لا بُدّ من إستعراض مَضمون نظريّة المُؤامرة المَذكورة، حيث أنّ المُؤمنين بها يعتبرون أنّ القصّة لا علاقة لها بهويّة وزير هنا، أو بالجهة التي ستحصل على هذه الحقيبة أو تلك هناك، ولا حتى بهويّة رئيس الوزراء أو طبيعة الحكومة ككل هنالك. وهم يُصرّون على أنّ المسألة أعمق من ذلك بكثير، وترتبط بسلسلة من الأهداف الإستراتيجيّة التي ترغب أكثر من قُوّة عالميّة مُؤثّرة، لا سيّما الولايات المتحدة الأميركيّة، بتحقيقها في لبنان، إن لم يكن في المُستقبل القريب، فحتمًا في المُستقبل المُتوسّط أو حتى البعيد، وإلا فإنّ الخط الإنحداري لسُقوط لبنان نحو الإنهيار الكامل على مُختلف المُستويات، سيبقى قائمًا وستزداد وتيرته مع مُرور الوقت وتصاعد الضُغوط. وبحسب أصحاب هذه النظريّة، إنّ الأهداف المَطلوب أن يوافق لبنان عليها، أو أن يخضع لها عمليًا، هي:
أوّلاً: أن يُوافق على توطين اللاجئين الفلسطينيّين بشكل دائم في ربوعه، بحيث يتمّ إنخراطهم في سوق العمل اللبناني من دون أي عوائق، ويتمّ دمجهم في المُجتمع اللبناني بشكل تدريجي، لانّ عودة هؤلاء إلى أرضهم المُحتلة غير وارد إطلاقًا.
ثانيًا: أن يُوافق لبنان على بقاء النازحين السُوريّين على أرضه لفترة غير زمنيّة مَفتوحة، وأن يُقدّم كل التسهيلات لهم، للعمل وللسكن وللتعلّم ولمُمارسة حياتهم الطبيعيّة ضُمن المُجتمع اللبناني، بحيث يبقى هؤلاء النازحون ورقة سياسيّة يتمّ تحريكها من قبل المُجتمع الدَولي عندما تدعو الحاجة.
ثالثًا: أن يُوافق لبنان على ترسيم حدوده البريّة والبحريّة الجنوبيّة، وفق تسوية ترضى عنها الأطراف المَعنيّة، بهدف تثبيت وقف العمليّات القتاليّة مع إسرائيل، بما يُشبه التطبيع الميدانيوالعملاني، ولوّ من دون توقيع أيّ إتفاق خطّي بذلك، في إنتظار أن تُصبح الظُروف مُؤاتيّة داخليًا وإقليميًا، للإنضمام إلى مجموعة دول التطبيع مع إسرائيل.
رابعًا: أن يُوافق لبنان على حصّص مُحدّدة له على مُستوى إستخراج النفط أو الغاز من مياهه الإقليميّة، وفق إتفاقات توقّع مع شركات غربيّة تدور في فلك الولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبيّة المُؤثّرة في الوضع اللبناني.
خامسًا: أن يُوافق لبنان على مُحاصرة "حزب الله" سياسيًا، وعلى عزله داخليًا وخارجيًا، وعلى منعه من التدخّل عسكريًا في سوريا، وأمنيًا في بعض دول المنطقة، تمهيدًا لتأمين الظُروف المُناسبة مُستقبلاً لسحب السلاح منه، ولجعل الجيش اللبناني القُوّة المُسلّحة الوحيدة-إلى جانب القوى الرسميّة الأخرى طبعًا، على الأراضي اللبنانيّة كافة.
بعد إستعراض أبرز تفاصيل نظريّة المُؤامرة، من الواضح أنّها مَبنيّة على مُعطيات مَلموسة وواقعيّة، وليست من نسج الخيال، لكنّ لا يُمكن الجزم بأنّ ما يحصل حاليًا من إنهيار مُتواصل في لبنان، ناجم من الضُغوط لتحقيق هذه الأهداف، حيث تُوجد في مُقابل نظريّة المُؤامرة المَذكورة أعلاه، نظريّة أخرى تتحدّث عن أنّ لبنان هو الذي قاد نفسه إلى هذا المصير، من خلال سياسات فاشلة عُمرها عشرات السنوات، وُصولاً إلى توريطنا من جانب"حزب الله" الذي تحرّك كرأس حربة عالية الفعاليّة لإيران على مُستوى الشرق الأوسط ككل، وكذلك من خلال تغطية الحُكم اللبناني لسياسة "الحزب" العسكريّة والأمنيّة في المنطقة، عبر أغلبيّة نيابيّة ووزاريّة واضحة تدور في فلك "محور المُقاومة والمُمانعة"، الأمر الذي أوجد عداوات واسعة للبنان مع عشرات الدول العربيّة والغربيّة. وأصحاب هذه النظريّة المُختلفة يتحدّثون عن أنّه لا يُمكن للبنان الدُخول في محاور إقليميّة ودَوليّة في خضّم التغييرات الجيو-إستراتيجيّة الكُبرى الحاصلة في الشرق الأوسط، من دون أن يتحمّل عواقب هذا المنحى التصعيدي، وهذا الخطّ السياسي-الأمني الخطير الذي إختاره عن كامل تصوّر وتصميم، بعيدًا عن تموضعه الطبيعي السابق منذ نيله الإستقلال حتى الأمس القريب.
في الخُلاصة، لم يعد مُهمًّا أيّ من النظريّتين هو الصحيح أو الأصحّ والأقرب إلى التصديق، لكنّ الغريب أنّ لبنان الرسمي الذي يعرف مدى خُطورة أوضاعه، ومدى هشاشة حاله، لا يقوم بأيّ خُطوات لتحصين بنيته الداخليّة في خضمّ العواصف الإقليميّة والدَوليّة، أو على الأقلّ للتخفيف من وطأة الضُغوط عليه. بل العكس هو صحيح، حيث ينخرط المسؤولون الرسميّون والحزبيّون في لبنان، في مزيد من الإنقسامات والخلافات، وفي مزيد من الصراعات ومن التحدّيات، غير آبهين لمصير شعب بكامله صار على الحضيض، وذلك بدلاً من المُسارعة إلى تشكيل حُكومة إصلاحيّة وغير سياسيّة، تُحاول الحفاظ على الحدّ الأدنى من مُقوّمات الصُمود، وتُحاول الإلتفاف على الضُغوط الدَوليّة، في إنتظار جلاء الصورة الإقليميّة والدَوليّة!.