يبدو من الواضح للقاصي والداني انّ الحرب التي تشنّها الحكومة السعودية، منذ أكثر من خمس سنوات، ليس فقط أنها فشلت في تحقيق ما سعت إليه من سحق المقاومة اليمنية والقضاء عليها واعادة إخضاع اليمن للهيمنة السعودية الأميركية… بل انّ هذه الحرب استنزفت المقدرات المالية للمملكة، وجعلتها تغرق في مستنقع من الاستنزاف يزداد مع كلّ يوم تتواصل فيه هذه الحرب المكلفة، والذي لا مخرج منه إلا بالمسارعة إلى وقف هذه الحرب المدمّرة وإقرار الحكومة السعودية بالفشل والهزيمة أمام المقاومة الأسطورية للشعب اليمني الذي قلب كلّ الرهانات وفاجأ العالم بقدرته على الصمود والمقاومة والنجاح في تحويل الحرب الى مأزق لقوى العدوان، التي اعتقدت واهمة أنّ آلتها الحربية قادرة على تحقيق ما تريده في أسابيع، فإذا بالحرب تجاوز عمرها السنوات الخمس وأصبح الاستمرار فيها يهدّد استقرار المملكة، بعد أن استنزفت قدراتها المالية نتيجة تكلفتها الباهظة، وأضعف دورها التآمري ضدّ دول وقوى التحرر والمقاومة في المنطقة.. وانّ هذا التهديد لاستقرار المملكة يزيد من احتماله، تراجع عائدات النفط وانتشار وباء كورونا الذي أدّى إلى ركود الاقتصاد، الى جانب الإنفاق الهائل على شراء السلاح بعشرات آلاف الدولارات، وكذلك شراء مواقف الدول لضمان استمرار دعمها لموقف السعودية في الحرب على اليمن، والتزام الصمت إزاء المجازر الوحشية التي ارتكبتها آلة الحرب السعودية ضدّ اليمنيين…
المؤشرات البالغة الدلالة على النفق المظلم الذي دخلت فيه المملكة السعودية نتيجة الغرق في مستنقع الاستنزاف بفعل الاستمرار في الحرب الكارثية والمدمّرة في اليمن.. تمثلت في ما يلي:
المؤشر الأول، كشف مؤسسة «آي اتش أس ماركت» العالمية للأبحاث أنّ المملكة، أكبر مصدّر للنفط في العالم لم تخرج من دائرة الانكماش، التي تسيطر على الاقتصاد منذ أشهر طويلة، حيث ذكرت المؤسسة، في تقرير لها مؤخراً، أنّ التوظيف في القطاع الخاص السعودي تراجع بأسرع وتيرة له منذ عام 2009 وأنّ السعودية عادت إلى الوراء وباتت تواجه أسوأ انكماش اقتصادي تشهده منذ عقدين… وكانت «ماركت» قد ذكرت في فترة سابقة، أنّ مؤشر مديري المشتريات في المملكة انخفض إلى مستوى 44.4 نقطة، مقابل 42.4 نقطة في مارس/ آذار الماضي.
ويعني انخفاض المؤشر عن مستوى 50 نقطة أنّ ثمة انكماشاً، في حين أنّ تخطيه هذا المستوى يشير إلى النمو.
المؤشر الثاني، إعلان وكالة «موديز» للتصنيف الائتماني العالمية، أنها كانت قد خفضت في الأول من مايو/ أيار الفائت، النظرة المستقبلية للسعودية من «مستقرة» إلى «سلبية»، بسبب المخاطر التي يمكن أن تواجهها المملكة من جراء تذبذب أسعار النفط الناتج من أزمة كورونا، ومن عدم اليقين الناتج من تعامل المملكة للتخفيف من آثار هذه العوامل، من خلال موازنة الديون والإيرادات النفطية.
وتوقعت «موديز» أن يصل حجم الدين العام كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 38% لعام 2020، ليقفز إلى 45 في المائة بعدها في المدى المتوسط..
المؤشر الثالث، اعتراف ولي العهد السعودي محمد بن سلمان بأنّ الإيرادات النفطية للمملكة انخفضت فعلياً إلى 410 مليارات ريال وهي غير كافية لتغطية بند الرواتب في ميزانية هذا العام والمقدّر بنحو 504 مليارات ريال، مشيراً في رسالة بعث بها إلى الملك سلمان، إلى أنّ هناك صعوبة في تمويل البنود الأخرى والتي تشمل الإنفاق الرأسمالي، والمنافع الاجتماعية، والتشغيل والصيانة.. ما يعني ركوداً اقتصادياً وخسارة ملايين الوظائف.. ولمواجهة هذا العجز المالي، يرى ابن سلمان بـ «أننا سنضطر إلى تخفيض الرواتب بما يزيد عن 30 بالمائة وإلغاء البدلات والعلاوات بالكامل»… وكان قد كشف أنّ لجنة الإفلاس في المملكة تسلّمت نحو 381 طلب تصفية وتسوية وإعادة تنظيم من شركات ومؤسسات وأفراد، خلال أربعة أشهر ونصف الشهر…
إنّ هذا التدهور في الوضع الاقتصادي والمالي يضع ابن سلمان والمملكة أمام مأزق كبير غير مسبوق في تاريخ المملكة، خاصة أنّ قرار خفض الرواتب والبدلات والعلاوات، يأتي بعد أن تمّ رفع الضرائب غير المباشرة ثلاث مرات من 5% إلى15% وإلغاء امتيازات الموظفين مما أدّى إلى زيادة الأعباء المعيشية على المواطنين وتراجع مستوى قدرتهم المعيشية…
واذا كانت عوامل، الركود الاقتصادي وانتشار وباء كورونا وتراجع أسعار النفط لعبت دوراً في تفاقم العجز، إلا أنّ هناك شبه إجماع لدى المراقبين والخبراء والمحللين، بأنّ العامل الأساسي إنما يكمن في التكاليف الباهظة للحرب في اليمن، التي تقدّر بمئات مليارات الدولارات، وقد تكون عدة تريليونات من الدولارات… اذا ما أخذنا بالاعتبار أنّ أكلاف الحرب الأميركية في العراق بين 2003 و 2007 قد تجاوزت ثلاثة تريليونات من الدولارات حسب تقدير الخبير الاقتصادي الأميركي جوزيف ستيغليز، وأنّ الحرب بإنفاقها الكبير قد توقفت باحتلال العراق بعد شهر على شنّها لتواجه بعد ذلك القوات الأميركية عمليات المقاومة العراقية التي راحت تستنزفها.. أما الحرب السعودية في اليمن فإنّ إنفاقها الكبير والهائل لم يتوقف لأنّ السعودية لم تتمكّن من السيطرة على القسم الشمالي من اليمن.. ما جعل تكلفة الحرب تزداد على نحو كبير نتيجة عاملين…
العامل الأول، الحاجة إلى الإنفاق على آلة الحرب، من طلعات يومية للطيران الحربي والغارات التي يشنّها، الى القوات البرية التي تخوض القتال اليومي… كلّ ذلك تطلب إنفاقاً كبيراً مستمراً منذ أكثر من خمس سنوات…
العامل الثاني، الخسائر الكبيرة التي مُنيت بها المملكة عسكرياً واقتصادياً بفعل المقاومة اليمنية الضارية والشرسة، وضرباتها الصاروخية وبواسطة الطائرات المسيّرة ضدّ المنشآت النفطية الحيوية في العمق السعودي والتي ألحقت خسائر جسيمة بها…
هذا المأزق الذي وصلت إليه المملكة يضع الحكومة السعودية أمام خيارين أحلاهما مرّ…
خيار أول، مواصلة الحرب من دون طائل، وبالتالي تغطية الإنفاق عليها عبر مواصلة الاستدانة وتحميل المواطنين السعوديين المزيد من الأعباء الضريبية… وتقليص التقديمات الاجتماعية.. وهذا الخيار يقود إلى مزيد من الغرق في المستنقع، وبالتالي زيادة حدة الأزمة الاقتصادية والمالية مما قد يؤدي إلى تهديد الاستقرار الاجتماعي الذي نعمت به المملكة طوال عقود ماضية نتيجة العائدات الضخمة من بيع النفط والحج والعمرة والتي كانت توفر رواتب مرتفعة.. وبالتالي تمكين السلطات من قمع المعارضة.. وتمويل خطط التآمر ضدّ قوى المقاومة في المنطقة…
خيار ثان، اتخاذ قرار وقف الحرب والاعتراف بالفشل والهزيمة في تحقيق أهدافها والذهاب إلى القبول بالحلّ السياسي الذي يقرّ بحق الشعب اليمني في تقرير مصيره بعيداً عن التدخلات الخارجية، وبالتالي خروج المملكة من الحفرة التي غرقت فيها بدلاً من الاستمرار في الغرق فيها ومواجهة خطر تفجر أزمة اقتصادية ومالية واجتماعية…
على أنه باتت القناعة المؤكدة لدى المقاومة اليمنية بأنّ أسرع طريق لوقف الحرب ووضع حدّ لمعاناة اليمنيين وتحقيق استقلال اليمن بعيداً عن التبعية والهيمنة الأميركية السعودية، إنما يكمن في تشديد ضربات المقاومة ضدّ مرتكزات القوة السعودية الاقتصادية والعسكرية، وبالتالي زيادة وتيرة استنزاف المملكة وانهاك قدراتها وجعلها مجبرة هي وأميركا على اتخاذ قرار وقف الحرب خوفاً من تداعيات استمرارها على استقرار المملكة والنظام فيها…