تخيّم أجواء التشاؤم على مساعي تشكيل الحكومة اللبنانية… وتعزّز التشاؤم بعد زيارة المبعوث الفرنسي دوريل وتبنّيه شروط الرئيس سعد الحريري لتشكيل الحكومة، بل والمطالبة بحصة فرنسية في الحكومة… وكان من الطبيعي ان تلاقي هذه المحاولات الرفض من قبل رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الذي أصرّ على أن يتواصل الرئيس المكلف مع كلّ الأفرقاء وتأليف الحكومة على قاعدة وحدة المعايير واحترام التوازنات النيابية… وهو ما يسعى الرئيس المكلف إلى القفز فوقه، ومحاولة تمرير شروطه القاضية بأن يشكل «حكومة مَهمة» من الاختصاصيين غير الحزبيين يتولي هو تسميتهم، أو أقله تسمية الوزراء المسيحيين، والشراكة مع الفرنسي الذي دخل على الخط للحصول على حصة وزارة وتحديداً وزارة الطاقة التي تهمّ الشركات الفرنسية على صعيدين، الاستثمار في بناء معامل الكهرباء والتتقيب عن النفط والغاز في المياه الإقليمية اللبنانية…
من البيّن انّ هذه التعقيدات التي واجهت تشكيل الحكومة، إنما تعود إلى الفيتو الأميركي، الذي استحضر مجدّداً، على مشاركة التيار الوطني الحر ورئيسه جبران باسيل من خلال فرض العقوبات عليه، عشية ترجمة الاتفاق على التشكيلة الحكومية بين الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري، مما بدّد أجواء التفاؤل التي سادت… ودفع الرئيس الحريري إلى التراجع عن اتفاقه مع الرئيس عون… ومن ثم جاء تصريح السفيرة الأميركية دوروثي شيا بمثابة إعادة تذكير للحريري بدفتر الشروط الأميركي لتشكيل الحكومة، والذي ينصّ على…
اولاً، لا موافقة على حكومة يشارك فيها حزب الله.. وربط أيّ مساعدة للبنان بالإبتعاد عن حزب الله، وعن «وزير الصحة بسبب قربه من حزب الله».
ثانياً، وضع فيتو على العلاقة مع جبران باسيل لأنها «تشكل غطاء لسلاح حزب الله».
ثالثاً، مواصلة الضغط لفرض حكومة تلبّي الشروط الأميركية تحت عنوان ما أسمته شيا.. «المساعدة على مكافحة الفساد في لبنان حتى يتحقق تقدّم ما في هذا المجال خطوة بعد خطوة، وانه لن يكون هناك شيء مجاني بعد اليوم».
من هنا فإنّ الحركة الفرنسية الحريرية باتت تسير على خط الفيتو الأميركي منضبطة فيه لا تحيد عنه، وهي تسعى الى استغلال عاملين أساسيين لفرض حكومة تنسجم مع الشروط الأميركية من جهة، وتحقق المصالح الفرنسية من جهة ثانية، وتعزز موقف الحريري في السلطة من جهة ثالثة.
هذان العاملان هما…
العامل الأول، استخدام التدهور المستمرّ في الوضع الاقتصادي المالي وازدياد الضائقة المعيشية للضغط على الأغلبية النيابية والرئيس عون لفرض شروط الحريري لتأليف الحكومة، والتي هي شروط أميركية.. وفي هذا السياق يجري التلويح بقرب فقدان مصرف لبنان لما تبقى من احتياط لديه بالدولار والتهديد برفع الدعم عن المواد والسلع الأساسية من ناحية… واللجوء من قبل المؤسسات المالية والمضاربين إلى رفع سعر صرف الدولار وجعل الأسعار تلتهب من جديد بهدف زيادة منسوب الضغط على الوضع المعيشي للناس من ناحية ثانية.. وبالتالي العمل على خلق مناخ عام بأنّ الوضع الاقتصادي والنقدي يتحسّن في حال تمّت الاستجابة لشروط الرئيس الحريري، ويزداد سوءاُ في حال رُفضت شروطه.. وهذا ما حصل، حيث تمّ خفض سعر صرف الدولار من قبل المؤسسات المالية والمضاربين بالتزامن مع الاتفاق على تسمية الحريري وتكليفه، والأجواء الإيجابية التي سادت اثر ذلك بقرب تشكيل الحكومة، وهبط سعر صرف الدولار من ثمانية آلاف وسبعماية وخمسون ليرة إلى نحو ستة آلاف ليرة، في حين عندما تعقدت عملية التأليف اثر العقوبات الأميركية على باسيل، وما تبعها من عودة الحريري إلى التمسك بتسمية الوزراء المسيحيين من قبله، في وقت لم يتفق فيه على مع حزب الله وحركة أمل على تسمية وزرائهما أصلاً، عاد سعر صرف الدولار الى الصعود مجدّداً إلى أن بلغ أمس عتبة الثمانية آلاف وخمسماية ليرة لبنانية وهو مرشح للصعود في إطار عملية الضغط لفرض القبول بشروط الحريري لتشكيل الحكومة…
العامل الثاني، تلويح باريس المستمرّ بأنّ لبنان لن يحصل على مساعدات دولية، الا إذا تمّ تشكيل حكومة تستجيب لشروط الحريري، وترضي الدول المانحة وتحقق شروط صندوق النقد الدولي…
على أنه من الواضح أنّ الرئيس الحريري ومعه الفرنسي رسما موقفهما على أساس انه في حال لم تتمّ الاستجابة لشروطهما في تشكيل الحكومة، فإنهما يستمران في لعبة تقطيع الوقت من الآن إلى انتهاء ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب، وتسلم الرئيس الفائز في الانتخابات الأميركية جو بايدن مقاليد السلطة في البيت الأبيض في 21 كانون الثاني المقبل واستكمال تشكيل فريق إدارته وتحديد طبيعة السياسة الأميركية الخارجية…
هذا يعني أنّ العامل الخارجي هو السبب في منع تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة وفق الأصول المعمول بها في النظام البرلماني ودستور الطائف.. وانّ هذا العامل الخارجي، المتمثّل بالتدخل الأميركي السافر والمكشوف على خط التأليف وممارسة الضغوط بالحصار الاقتصادي والمالي والعقوبات، ما كان لينجح في عرقلة ولادة الحكومة، لولا أنّ بعض الأطراف اللبنانية وفي مقدّمهم الرئيس الحريري وتياره يرضخون لهذا الضغط الأميركي ويستجيبون للاملاءات الأميركية.. ولو كان الأمر عكس ذلك لما تراجع الرئيس الحريري في اللحظة الأخيرة عن اتفاقه مع الرئيس عون لتشكيل الحكومة، والذي كان بانتظار إسقاط أسماء الوزراء الاختصاصيين الذين سيتمّ تسميتهم من قبل الكتل النيابية..
انها التبعية للولايات المتحدة والدول الغربية هي التي كانت وراء تقديم الرئيس الحريري استقالة حكومته على اثر اندلاع احتجاجات ١٧ تشرين الأول عام 2019، وهي السبب وراء تعطيل تشكيل الحكومة عبر فرض الشروط التعجيزية المستحيلة والمرفوضة من قبل فريق الأغلبية النيابية، لأنّ القبول بها سوف يعني تمكين واشنطن من تنفيذ الانقلاب على نتائج الانتخابات والمعادلة السياسية التي أرستها، والإمساك بناصية القرار السياسي بواسطة حكومة تابعة للولايات المتحدة تتولى تنفيذ الأجندة الأميركية التي تصبّ في خدمة الأجندة الصهيونية.. انطلاقاً من أنّ السياسية الأميركية في لبنان والمنطقة إنما هي سياسة إسرائيلية تنفذها واشنطن.. لهذا فإنّ مصير تشكيل الحكومة أصبح معلقاً إلى ما بعد تسلّم إدارة بايدن مقاليد السلطة في واشنطن.. وطالما أنّ الرئيس الحريري استمرّ في الخضوع للضغط الأميركي وطرح الشروط التعجيزية…