لا يوجد دولة في العالم، ما عدا بريطانيا، لا تحتفل بذكرى إستقلالها أو تحرير أرضها او نصرها على الغُزاة والمحتلّين. تتربّى الأجيال الصاعدة في كل دولة على مفهوم تلك المناسبة الوطنية التي تهدف لتعزيز الإنتماء للبلد، وترسيخ مفهوم التضحيات من أجل الوطن.
لم يُعرف سابقاً انّ شعباً تراجع إهتمامه بتلك الذكرى، بل إن شعوباً تخترع مناسبات وطنية للإستفادة منها في رص صفوف المواطنين. لكن الغرابة أن منسوب الإهتمام بعيد الإستقلال يتراجع في لبنان عاماً بعد عام. مضى ٧٧ سنة على الذكرى التي زرعت مفهوم الوطن في نفوس اللبنانيين، من خلال تضحيات الشعب التي تجاوزت معايير الطائفية والمناطقية. يومها كان حزبا "النجادة" بما يعنيه من تمثيل المسلمين وقتها، و"الكتائب" بما يعنيه من تمثيل المسيحيين، معاً في معركة الإستقلال إلى جانب كل رجالات الإستقلال. ويومها أيضاً سقط شهداء وجرحى من مناطق عدّة، وجمعت السجون رموز البلد بكل إنتماءاته، حتى تم فرض الإستقلال بعد مرحلة الإنتداب الفرنسي.
منذ ذاك العام، وحتى سنوات مضت، كان للذكرى وهجها، وألق الإحتفال بها. كانت الأجيال في المدارس والكشافة ينشطون في عيدي العلم والإستقلال، تحضيراً لذكرى وطنية مشرّفة تجمع اللبنانيين. لماذا يحصل التقصير المُتدرّج منذ سنوات بحق الإستقلال؟ اللافت أن لبنان في زمن الحرب التي إمتدّت طيلة ١٥ سنة، بقي يعيش فرحة وإحتفالية عيد الإستقلال، لكنه يتخلّى تدريجياً عن تلك المناسبة في زمن يحتاج فيه لمناسبات تشدّ من عضد أبنائه.
لا يستطيع أحدٌ التخلّي عن محطة رسّخها التاريخ بقوة الوحدة اللبنانية والتضحيات الشعبية. لا يجوز القول إنّ البلد ليس مستقلاً عن التدخلات الخارجية، للتذرّع بإنهاء فاعلية الذكرى. ولا يُمكن الإدّعاء أن فرنسا أهدت اللبنانيين إستقلالاً للتقليل من حجم المناسبة. ولا يصحّ أن تُصبح المناسبات الأخرى أكثر أهمية من عيد وطني يُفترض أن يكون هو الأساس.
إن مخاطر تناسي محطة الإستقلال تتعدّد، لكن أهمها أن تلك المناسبة لا يجوز وطنياً التخلي عنها، لأنها تجمع اللبنانيين تحت راية واحدة: كأنّ هناك سعياً لأن تكتفي كل طائفة، وكل مذهب، وكل منطقة، وكل حزب، وكل حيّ، بأعيادهم الخاصة ومناسباتهم الضيّقة ضمن زواريب البلد، وعدم الإرتقاء إلى مناسبة وطنية جامعة.
يحصل التقصير الآن في كل مؤسسة، في الإعلام، عند الجمعيات والاحزاب، عند كل فريق. بقيت المناسبة تحضر في احتفالات عسكرية، أو مدرسية خجولة غابت السنة بطبيعة الحال بسبب فايروس كورونا الذي أقفل المؤسسات التربوية وفرض تجميد النشاطات.
لا يقتصر الأمرُ عند هذا الحد، بل يوجد هناك من يتّخذ أزمات البلد ذريعة لإهمال الذكرى عن قصد. وما علاقة تلك الأزمات بتضحيات الأجداد والآباء الإستقلاليين؟ ولماذا ضرب مفهوم الإستقلال بحجّة أن وضع البلد سيء حالياً؟ هل إن الذين حققوا إستقلالاً لبنانياً مسؤولون عن فشل الحكومات المتعاقبة طيلة عقود؟ أم هم مسؤولون عن الفساد السياسي على مر العهود؟ .
إذا كان صنّاع الإستقلال يتحملّون مسؤولية وحيدة، فهي أنهم فشلوا في تأسيس دولة مدنية غير طائفية. لكن، كان بإمكان من لحقهم في قيادة البلد أن يفرض دستوراً ومفاهيم وطنية تتجاوز الحسابات الطائفية والمذهبية.
نجح الإستقلاليون عام ١٩٤٣ في تحرير البلد، ثم جاءت محطة ٢٥ آيار ٢٠٠٠ تُكمل المسار الوطني التحرّري ذاته، لكن السياسيين جميعهم منذ سنة ١٩٤٣ وحتى يومنا الحالي فشلوا في الإرتقاء الى مستوى الإستقلال. لذا، فإن الأجيال تدفع الثمن كل يوم. ويُراد لتلك الأجيال نفسها نسيان ان هناك تضحيات ووحدة وطنية صنعوا إستقلالاً عام ١٩٤٣. فهل المطلوب إغتيال لبنان بنسف تاريخه؟.