مجدّداً يتمّ تقاذف المسؤوليات حول أسباب الانهيار الاقتصادي والمالي، ووضع العراقيل أمام أيّ معالجات جدية للخروج من الازمة.. في ظلّ تهديد حاكم مصرف لبنان رياض سلامة برفع الدعم نهاية العام نتيجة نفاذ مؤنة البلاد من احتياط الدولار، هذا الدعم الذي لا يزال يسهم في الحدّ من حصول تدهور خطير جداً في القدرة الشرائية للمواطنين..
انّ هذا الأمر يعيد مجدّداً طرح الأسئلة حول الأسباب التي أدّت إلى انفجار الأزمة المالية والاقتصادية المتمادية التي تشهدها البلاد، ومن يقف وراء عرقلة الحلول الإصلاحية وتشكيل الحكومة، وبالتالي الأفق المتاح راهناً أمام لبنان..
أولاً، في الأسباب، الداخلية والخارجية:
1 ـ في الأسباب الداخلية، الأزمة تعود إلى النهج الاقتصادي المالي النيوليبرالي الذي ساد منذ عام 1992 على اثر وصول رئيس الحكومة الأسبق رفيق الحريري إلى سدة رئاسة الحكومة ونجاحه في تشكيل تحالفات مكّنته، مع وجود رئيس للجمهورية داعم لسياساته، من تنفيذ سياساته الريعية التي ربطت لبنان أكثر من أيّ وقت سابق بعجلة التبعية للنظام الرأسمالي الغربي، وهي سياسات قامت على ما يلي…
*تخصيص المؤسسات العامة الرابحة، عبر تمكين الشركات الخاصة من الاستيلاء على قطاعات، الخليوي، والبريد، والنقل والمواصلات، والنفط إلخ… وحصد الأرباح الطائلة وبالتالي حرمان خزينة الدولة من مواردها الأساسية… وفي هذا السياق جرت عملية تخريب متعمّدة للقطاعات التي لم يجر الاتفاق على تخصيصها بهدف إفلاسها وتحوّلها إلى عبء على الدولة، لفرض تخصيصها، مثل عرقلة إصلاح الكهرباء وبناء معامل تحلّ المشكلة جذرياً… ومنع إعادة تأهيل منشآت ومصافي النفط في طرابلس والزهراني… وعدم إيجاد الحلول لأزمة النفايات والاستمرار بالمتاجرة بها عبر شركات جمع النفايات…
*اللجوء إلى تمويل إعادة إعمار ما دمّرته الحرب الأهلية من خلال الاستدانة، وتثبيت سعر صرف الليرة، بكلفة كبيرة، عبر الاكتتاب بسندات الخزينة بفوائد مرتفعة بلغت سقف الـ 43 بالمئة، مما شكل أكبر عملية نهب للمال العام بستار مموّه هو الاستدانة لإعادة الإعمار، وأتاح لرجال المال حصد الأرباح الخيالية من جهة، ونشوء حاشية من الأثرياء الجديد الذين أتاحت لهم الطبقة المالية المسيطرة فرصة الحصول على قروض ميسّرة لتوظيفها في سندات الدين بفوائد مرتفعة مما مكّنهم من تكوين ثروة خلال سنوات معدودة من جهة ثانية، وبالتالي توجيه الأموال نحو التوظيف بسندات الخزينة، مما أدّى إلى توقف الاستثمارات في قطاعات الإنتاج الزراعي والصناعي والسياحي.. وتهميش هذه القطاعات من جهة ثالثة.
*انشاء شركة سوليدير التي استولت على وسط بيروت التجاري تحت عنوان إعادة الأعمار في أكبر عملية سطو على الأملاك العامة والخاصة من قبل شركة خاصة بوساطة قانون أصدره مجلس النواب تحت اسم الشركة العقارية ومنحهها حقاً حصرياً في إعادة بناء وسط بيروت، وتخلي الدولة عن كامل حقوقها لمصلحة هذه الشركة وإعفاء الشركة من الضرائب.. وهو الأمر الذي دفع أمين عام رابطة الشغيلة النائب السابق زاهر الخطيب، في حينه، إلى وصف مصادقة البرلمان على هذا القانون، باتفاق 17 أيار اقتصادي.
*فرض تلزيم المشاريع وعقد الصفقات بالتراضي، وتهميش دور مؤسّسات الرقابة والمحاسبة، مما جعل كلّ مشتريات الدولة، وإقامة المشاريع خارج أيّ رقابة.. الأمر الذي وفر الفرصة للفاسدين لأجل تكبير تكاليف العقود وتنفيذ المشاريع بالتواطؤ مع الشركات والمقاولين…
*تحويل ملف إعادة المهاجرين من قبل الطبقة السياسية إلى وسيلة لهدر المال العام عبر إنفاق المال المخصص لعودة المهاجرين، على قواعدها الانتخابية والمحاسيب، لتعزيز نفوذها السياسي، على حساب العودة الحقيقية للمهجرين…
هذه السياسة الاقتصادية المالية، أدّت عملياً إلى ثلاث نتائج خطيرة نعيش تداعياتها هذه الأيام…
النتيجة الأولى، تراكم دين الدين وبلوغه مستويات خطرة بالقياس للناتج الوطني، الى جانب الفوائد المتزايدة، مما أدّى إلى عجز كبير في الموازنة العامة تجاوز الـ 11 بالمئة وهي من النسب الأعلى في العالم، وما زاد الطين بلة انّ لبنان لم يعد قادراً على تسديد مستحقات الدين والفوائد مع اقتراب المصرف المركزي من لحظة فقدان القدرة على تأمين الدولارات الضرورية لمشتريات لبنان الأساسية من قمح ومشتقات نفطية ومستلزمات طبية، الأمر الذي لم يعد بإمكان لبنان الاستمرار بنفس السياسات القائمة.. وهو ما دفع حكومة الرئيس حسان دياب إلى إعلان التعثر عن سداد مستحقات الدين والفوائد والدخول في مفاوضات من صندوق النقد الدولي.. لإعادة هيكلة الدين واجراء إصلاحات مالية…
النتيجة الثانية، ازدياد حدة التفاوت الاجتماعي في ظلّ تمركز الثروة بيد قلة من الأثرياء، طبقة الـ 4 بالمئة، وتدهور وضع الطبقات الوسطى والصغرى والمحدودة الدخل، وتنامي مستويات الفقر وارتفاع نسبة البطالة التي تجاوزت الـ 33 بالمئة…
النتيجة الثالثة، تدهور الخدمات العامة من كهرباء وماء ونفايات حيث باتت البلاد تعاني من أزمات في هذه القطاعات في ظلّ العجز المستمرّ من قبل الطبقة السياسية الحاكمة على إيجاد الحلول الناجعة لها وتقاذف المسؤولية عن هذه الأزمات..
2- الأسباب الخارجية للازمة، تكمن في ما يلي:
1 ـ إقدام الولايات المتحدة الأميركي على فرض الحصار المالي على لبنان في سياق خطة لحصار حزب الله المقاوم والتضييق على بيئته المباشرة… وقد أدّى هذا الحصار إلى إفلاس البنك الكندي، ومن ثم بنك الجمال، وإلى وقف التحويلات من الخارج، وأخيراً تجميد حسابات اللبنانيين بالدولار بحجة عدم توافر الدولارات لدى المصارف.. ما أدّى إلى تفجر احتجاجات 17 تشرين الأول من عام 2019…
2 ـ التدخل الأميركي المباشر على خط انفجار الأزمة لاستثمارها بهدف فرض الشروط الأميركية القاضية بإقصاء حزب الله وحلفائه عن السلطة التنفيذية وتشكيل حكومة موالية للسياسة الأميركية تتولى تنفيذ الانقلاب السياسي على المعادلة السياسية وتلبية طلبات واشنطن.. وقد أدّى ذلك إلى شلّ حركة الاقتصاد وتفاقم حدة الأزمة الاقتصادية والمالية وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين.. على أنّ الأزمة باتت تقترب من لحظة مفصلية مع التدني المستمرّ في قيمة الليرة وإعلان مصرف لبنان عن عدم قدرته مواصلة سياسة دعم السلع والمواد الاساسية بعد نهاية العام الحالي، لأنّ احتياطه من الدولارات قد تبخّرت.. وما بقى من دولارات في المصرف إنما هي ودائع المصارف، وتعود للمودعين..
ثانياً، في العراقيل.. يبدو واضحاً بعد عام على انفجار الأزمة في الشارع، انّ الطبقة السياسية التي حكمت البلاد منذ عام 92 والتي تتحمّل المسؤولية عن الأزمة التي يرزح تحت وطأتها لبنان واللبنانيين، تقف عقبة أمام إيجاد الحلول الجدية، فهي تعيق تشكيل حكومة شراكة وطنية تتولى تنفيذ إصلاحات تضع حدا لاستمرار الانهيار الاقتصادي والمالي، وتعيد النظر بالسياسات، التي تسبّبت بالأزمات، لصالح تنبني سياسات تنموية ومحاربة الفساد والفاسدين واسترداد الأموال المهرّبة للخارج وتلك التي جرى نهبها من المال العام على مدى أكثر من عقدين، وكما تعيق تحميل الأثرياء والمصارف، الذين حققوا الأرباح الطائلة من الفوائد المرتفعة بسندات الخزينة والهندسات المالية، جزءاً من الأعباء لمعالجة الأزمة المالية.. ولم تكتف هذه الطبقة بعرقلة تشكيل حكومة إنقاذ، بل عمدت، بالتعاون مع ممثل حاكم المصرف رياض سلامة، إلى عرقلة مهمة شركة «ألفاريز ومارسال» للتدقيق المالي الجنائي في حسابات مصرف لبنان.. مما دفع الشركة الى التوقف عن مواصلة مهمتها وفق العقد الذي وقعته مع الحكومة اللبنانية..
كما انّ فريقاً أساسياً من هذه الطبقة السياسية، المسؤولة عن الأزمة وعرقلة الحلول الإصلاحية، يواصل سياسة الرضوخ للضغط الأميركي لتعطيل تأليف حكومة توافق وطني، ويعمل على محاولة توظيف تفاقم الأزمة لفرض الشروط الأميركية لتشكيل حكومة اختصاصيين يسمّي وزراؤها الرئيس المكلف سعد الحريري.. َما يؤدّي بالطبع إلى تعطيل التأليف، لأنّ الحريري وفريق 14 آذار لا يملكون الأكثرية النيابية لفرض حكومة كهذه، ولأنهم أيضاً يخالفون الدستور ونتائج الانتخابات النيابية، وما أرسته من توازنات في البرلمان…
ثالثاً، في سبل الخروج من الأزمة وإنقاذ البلاد من خطر الإفلاس والانهيار الشامل.. يبدو من الواضح أنه في ظلّ عدم توافر الشروط الذاتية وموازين القوى لمصلحة التغيير الحقيقي السياسي والاقتصادي، فإننا نقف، في المدى المنظور، أمام واحد من احتمالين…
الاحتمال الأول، أن يتوقف الرئيس الحريري عن التمسك بشروطه التي تعطل تأليف حكومة توافقية، وبالتالي يتمّ الإسراع بولادة الحكومة قبل نهاية العام الحالي لوقف الانهيار المستمر والحصول على قروض خارجية تشكل مسكّنات موقتة تطيل بعمر الأزمة.. هذا الاحتمال مرتبط إما بتمرّد الحريري على الفيتو الأميركي وهو أمر مستبعد، أو حصوله على موافقة أميركية.. غير واردة أقله في المرحلة المتبقية من ولاية الرئيس الأميركي دونالد ترامب…
الاحتمال الثاني، أن يجري تفعيل حكومة تصريف الأعمال لتقوم بالتصدّي للقضايا الملحة والخطرة على قاعدة الظروف الاستثنائية.. ريثما تنشأ ظروف تتيح تشكيل حكومة جديدة.. وهذا الاحتمال هو المرجح لأنه هو الاحتمال الوحيد المتاح في ظلّ عدم إمكانية تشكيل حكومة توافق، وعدم اعتذار الرئيس الحريري، لإتاحة المجال أمام إجراء استشارات جديدة لتسمية رئيس مكلف آخر لتأليف الحكومة.. وهذا يعني انّ لبنان سيبقى غارقاً في الأزمة وسيزداد غرقاً.. وأنّ الأفق المتاح راهناً إنما هو تفعيل حكومة تصرف الأعمال.. ما يؤشر إلى الخطأ الكبير الذي اقترفه فريق الأغلبية النيابية عندما دفع حكومة الرئيس حسان دياب إلى الاستقالة، وضحّى بها، مقابل رهان على نجاح المبادرة الفرنسية وتراجع واشنطن عن شروطها التي تعطل تشكيل حكومة توافقية…