ليس بسرّ أنّ إيرادات خزينة الدولة تراجعت إلى أقلّ من النصف خلال العام 2020، بسبب الأزمة الإقتصاديّة المَفتوحة، مَعطوفة على الشلل في الدورة الإقتصاديّة الذي سبّبه وباء كورونا، وقبله الحراك الشعبي في الشارع، إلخ. وتركّز التراجع على مُستوى تسديد الضرائب والرسوم المُختلفة، وشهدت الضريبة على القيمة المُضافة تراجعًا كبيرًا أيضًا، بسبب إقتصار مُشتريات الناس على ما هو ضروري من مأكل ومشرب. وحدها عائدات الضريبة على الرُسوم العقارية شذّت عن القاعدة، وارتفعت بشكل ملحوظ بسبب لجُوء عدد كبير من المواطنين المُتمكّنين ماليًا، إلى شراء أراض ومنازل وعقارات سكنيّة وتجاريّة مُختلفة، مُستخدمين شيكات مصرفيّة لإتمام جزء كبير من كل صفقة. لكن حتى هذا المنحى الإيجابي عاد وتراجع بدوره خلال الأشهر القليلة الماضية، مع تضاؤل أصحاب الأملاك الذين يُوافقون على بيع مُمتلكاتهم في مُقابل شيكات مصرفيّة، كجزء أساسي من الدفعة الإجماليّة. وبالتالي، السؤال الذي يفرض نفسه، هو: كيف ستؤمّن الدولة الأموال لتغطية مصاريفها؟!.
بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى تواصل الإجتماعات البعيدة عن الأضواء على مُستوى المجلس المركزي في مصرف لبنان، للبحث في سُبل الرفع التدريجي للدعم عن العديد من السلع الحيويّة، بعد وُصول إحتياطي المصرف إلى المرحلة الحمراء. أكثر من ذلك، إنّ إستمرار الدعم لا يُمكن أن يتمّ سوى من جيوب المُودعين، لأنّ إستخدام الإحتياط الإلزامي الموجود لدى مصرف لبنان، يعني عمليًا المسّ مُباشرة بإحتياط الودائع المَوجودة داخل المصارف، أو لنكون أكثر دقّة، المسّ مُباشرة بما تبقّى من إحتياط ودائع كانت مَوجودة داخل المصارف! إشارة هنا إلى هذا الإحتياط الإلتزامي لا تتجاوز نسبته 15 % من قيمة كل وديعة مصرفيّة فقط لا غير، وهذه الأموال هي حق لكل مُودع وليست مشاعًا ليتصرّف بها مصرف لبنان، أو الدولة اللبنانيّة، كما تصرّفوا قبل ذلك بأصول الودائع بأكملها! وأمام هذا المأزق، تُواجه الدولة اللبنانيّة سلسلة من المشاكل الجسيمة، أبرزها:
أوّلاً: شركة "سوناطراك" الجزائريّة كانت أبلغت وزير الطاقة في حُكومة تصريف الأعمال ريمون غجر في 4 حزيران الماضي، عدم رغبتها بتجديد العقد الموقّع معها، وهي تواصل حاليًا تزويد لبنان بحاجته من "الفيول أويل" على أن تتوقف عن ذلك في 31 كانون الأوّل المُقبل. وطالما أن لا تجديد للعقد مع الشركة المذكورة(1)، ولا توقيع لعقد جديد مع شركة بديلة في ظلّ غياب حُكومة أصيلة، فإنّ أزمة إنقطاع التيّار مُرشّحة لتتفاقم قريبًا، علمًا أنّها لا تطال المنازل السكنيّة فحسب، بل مُختلف القطاعات الصناعيّة والإقتصاديّة والتجاريّة والإستشفائيّة وغيرها. ويتردّد أنّ الحلّ الذي ستلجأ إليه الدولة مُوقّتًا، يتمثّل في شراء الوقود من مُورّدين غير ثابتين، وتحديدًا من بواخر مُحمّلة بالنفط موجودة في البحر، مع ما يعنيه هذا الأمر من عدم إستقرار مُرتقب في عمليّة التغذية، علمًا أنّ هؤلاء لا يبيعون النفط سوى مُقابل مبالغ نقديّة مُباشرة، وهو ما صارت الدولة عاجزة عن تأمينه!.
ثانيًا: إنّ رفع الدعم عن المحروقات لإستمرار تأمين هذه المادة الحيويّة في السوق، يعني عمليًا إرتفاع سعر البنزين والمازوت، إلى درجة سيعجز المواطن غير الثري عن تحمّلها، ويعني أيضًا إرتفاع فواتير الإشتراكات في المولّدات الكهربائيّة الخاصة التي كانت إرتفعت بالأمس القريب إلى سقوف بات يصعب معها على الكثير من اللبنانيّين تسديدها، حتى مع إشتراك 5 "أمبير"!.
ثالثًا: لم تُفتح بعد إعتمادات جديدة لتأمين الغاز، علمًا أنّ الطلب على هذه المادة الحيويّة أيضًا يرتفع خلال فصل الشتاء، لأنّ الكثيرين يُشغلّون أجهزة تدفئة تعمل على الغاز. وبالتاليمَخزون الغاز يتضاءل بسرعة، وسنصل قريبًا إلى مُشكلة نقص حاد، ما لم يتمّ تأمين الإعتمادات، وهذا الأمر قد لا يحصل ما لم يتمّ رفع الدعم، مع ما يعنيه هذا الأمر من إرتفاع خيالي للأسعار!.
رابعًا: التقصير في تسديد مُستحقّات "هيئة أوجيرو" من قبل وزارة الإتصالات، سيُؤدّي حُكمًا إلى تراجع كبير وخطير لخدمات الإتصالات والإنترنت، خاصة على مُستوى الصيانة وإصلاح الأعطال، الأمر الذي سيُهدّد المَنظومة الإقتصاديّة كلّها. إشارة إلى أنّ "أوجيرو" تُطالب بمستحقات ماليّة تبلغ نحو 42 مليار ليرة لبنانية عن العام 2020، علمًا أنّ إشكالات قانونيّة سابقة كانت أدّت إلى تجميد دفع الأموال(2)، وزادت حدّة الأزمة مع إرتفاع سعر الصرف وإعتذار العديد من المُورّدين عن مُواصلة القيام بخدمات الصيانة، أو حتى عن مدّ وتركيب خُطوط جديدة، ما لم يتمّ تسديد مُستحقّاتهم بالدولار الأميركي، وهو ما لم تعد الدولة قادرة على القيام به من دون رفع الأسعار!.
في الختام، إنّه الإنهيار التام والكامل الذي لطالما كان يبدو بعيدًا، وقد بُتنا في صلبه حاليًا، وخلال أسابيع قليلة ستبدأ المأساة بالتفاقم على مُختلف الصُعد. وبالتالي نحن على بُعد فترة زمنيّة قصيرة جدًا من الإرتطام الكارثي بقعر الإنهيار الحاصل، والأنكى من كلّ ذلك، إنّ مسؤولينا الرسميّين والحزبيّين لا يُبادرون إلى أيّ تنازلات طفيفة مُتبادلة، لإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، بل يتمسّكون بتشدّدهم وبتموضعاتهم وبارتهاناتهم، غير آبهين بمصير شعب بكامله وصل إلى الحضيض!.
(1) كان التجديد يتمّ دوريًا كل ثلاث سنوات منذ العام 2005 حتى تاريخه، لكنّ أزمة "الفيول المَغشوش" أسفرت عن توتّر العلاقات مع الشركة وخروجها من السوق اللبناني.
(2) تجميد دفع الأموال سابقًا جاء على خلفيّة تحقيق مالي فتحته النيابة العامة لدى ديوان المُحاسبة، وبيّن وُجود فارق لا يقلّ عن 11 مليار ليرة لبنانيّة، بين نفقات مَطلوبة للتشغيل، ونفقات مَدفوعة فعليًا.