تتجه الامور في الولايات المتحدة الاميركية الى "العقلنة" بعد فترة من "الجنون" عاشها الاميركيون بفعل رفض الرئيس الحالي دونالد ترامب تسهيل نقل السلطة الى خليفته الرئيس المنتخب جو بايدن. توقع الكثيرون ان تصل التعقيدات فيملف التسليم والتسلّم الى حدّ الفوضى والحرب الاهليّة الاميركيّة، ولكن الواقع كان معاكساً تماماً، الى ان قرر ترامب العودة الى الاصول. وعليه، سيبدأ بايدن مرحلة قطع خيوط ترامب ونسج خيوط جديدة في الداخل والخارج على حدّ سواء، وهو لم يتأخّر في إعلان أسماء فريق عمله الجديد والمناصب المهمة التي سيتولاّها هذا الفريق، ومنهم وزير الخارجية أنطوني بلينكن. وفي نظرة سريعة على النبذة الشخصية لبلينكن، يمكن معرفة مدى قربه من بايدن الى أن وصفته تقارير إعلامية بأنه "النصف الآخر" للرئيس الأميركي الجديد، ما يعني أن كلامه يعبّر بشكل كبير عن كلام ساكن البيت الابيض الذي يتبنّى أفكاره بشكل تام. لا شك أن الخارجية الاميركية ستغيّر نمط تعاطيها مع العالم في ظلّ الوزير الجديد، فقد كان مايك بومبيو الآتي من عالم الاستخبارات، اكثر من يطبّق بشكل دقيق ذهنيّة ترامب "المقاطعة" للعالم، والتي أدّت الى تغيير جذري في التعاطي مع الحلفاء والاعداءعلى حدّ سواء. اليوم، يطلّ بلينكن بنفس جديد، خصوصاً وأنّه أوروبي الهوى ومدافع عن حقوق الانسان والحرّيات وأيضاً عن سلام وأمن إسرائيل وهو اليهودي الأصل. من نافل القول أن الوزير الجديد سينقض كل ما قام به سلفه، وسيعيد هندسة السياسة التي تضع اميركا ورئيسها ضمن مسافة أقرب من العالم، ولن يكون من الغريب أن تبدأ مسيرته باصلاح العلاقات الاوروبّية مع فرنسا التي عاش فيها 10 سنوات ويتقن لغتها بشكل كامل، وينتقل منها الى اعضاءالاتحاد الاوروبي دولة تلو الاخرى لإصلاح ذات البين معها.
ووفق ما يمكن توقعه من خلال سيرة بلينكن واقواله ومقابلاته ومواقفه، فهو ليس "حمامة سلام" ولا يجب على أحد أن يراه كذلك، فهو محام وصحافي ودبلوماسي سابق، وسيستفيد من كل هذه الصفات لتقديم وجه جديد لأميركا أكثر ضلوعاً في المسائل الدولية، واكثر قرباً من الأحداث العالمية. إنما لا يجب أن ننسى أن هذا الشخص هو نفسه من صفّق لترامب عام 2017عندما وجّه ضربة عسكريّة لسوريا بعد اتهامها باستخدام أسلحة كيميائية على السوريين، وكان من محبّذي ضرب سوريا عام 2013 لكن الرئيس السابق باراك اوباما لم يتحمّس لفكرته، وهو أيضاً كان من مشّجعي إستهداف أفغانستان عسكرياً بسبب ما تعرض له الأفغان. وفي رؤيته للوضع في المنطقة، ستكون الامور اكثر تشابكاً، لأنه في عهد ترامب كانت العلاقة مع الروس سيّئة علناً وممتازة سراً، وكانت الإدارة الأميركية ترغب في الإبتعاد قدر الامكان عن مشاكل الشرق الاوسط ورماله المتحركة، واهتمّت فقط بكسب أموال دوله، فأفسحت المجال أمام روسيا للتحرك بحرّية أكبر وبسط نفوذها بشكل أوسع. هذا الوضع لن يقبل به بايدن، وسيحاول بلينكن الإنطلاق من ثابتة تأمين مصالح اسرائيل وأمنها وسلامتها اولاً، واستعادة الحضور والنفوذ المؤثر لواشنطن في المنطقة، وهو أمر ليس بالسهل لأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يتبادل الحذر والقلق وعدم الانسجام مع بايدن ووزير خارجيته الجديد، لن يقف متفرجاً ولن يسمح بتقويض ما قام به طوال السنوات الأربع الماضية، وسنكون امام فترة "شدّ حبال" عسيرة في الشرق الاوسط.
واستناداً الى ذلك، من المرجح أن بدأ المهام الدبلوماسيّة بالشؤون البسيطة نسبياً أيّ استعادة ثقة الاوروبيين والعمل معهم، ثم التطرّق الى مشاكل روسيا والصين وما يتصل بهما، ولا يتوقعنّأحد أن يحمل بلينكن غصن سلام معه الى الشرق الاوسط، ولكن من المؤكد أنّه سيكون أكثر دبلوماسيّة من ترامب وبومبيو دون أن يفاوض على الثوابت التي سيضعها في سلّم أولويّاته وفي مقدمها الحفاظ على اسرائيل بأيّ وسيلة ممكنة.