في الشكل إنسحبت شركة "ألفاريز ومارسيل" رسميًا من مُهمّة التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان، مُبرّرة ذلكبعدم حُصولها على المَعلومات والمُستندات المَطلوبة للمُباشرة في تنفيذ مهمّتها(1)، علمًا أنّ هذه المسألة الحسّاسة ستكون مدار بحث خلال جلسة ستُعقد في قصر الأونيسكو في الساعة الثانية من بعد ظهر اليوم، حيث يُنتظر أن تتمّ مُناقشة مَضمون الرسالة الأخيرة التي وجّهها رئيس الجُمهوريّة، والتي دعا فيها إلى "تعاون السُلطة الإجرائيّة لتمكين الدولة من إجراء التدقيق المُحاسبي الجنائي في حسابات مصرف لبنان...". لكن في المَعلومات، إنّ مسألة "التدقيق الجنائي" تُخفي في كواليسها، صراعات مَفتوحة بين عدد كبير من القوى السياسيّة، تصل في بعض الأحيان إلى مُحاولة التدمير المَعنوي والسياسي، وحتى إلى مُحاولة الشطب والإلغاء من المُعادلة السياسيّة ككلّ! ماذا في المَعلومات؟.
أوّلاً: إنّ التأخير في تشكيل الحُكومة، يعود إلى إعتبارات خارجيّة، أبرزها القُيود الأميركيّة على تمثيل "حزب الله" في الحُكومة، وعلى نوعيّة الوزارات التي ستُمنح له، وكذلك إلى مُحاولات دَوليّة لفرض بعض الأسماء الوزاريّة ولإستبعاد أخرى. كما أنّ التأخير في التشكيل يعود أيضًا إلى إعتبارات داخليّة مُرتبطة ببعض الوزارات السياديّة الخدماتيّة، وبخلافات دُستوريّة بين رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون ورئيس الحُكومة المُكلّف سعد الحريري، وتحديدًا بالنسبة إلى تسمية الوزراء، وبخاصة المسيحيّين منهم. وإضافة إلى كلّ ما سبق، وبحسب المَعلومات المُتوفّرة، إنّ مسألة "التحقيق الجنائي" تُشكّل أحد أبرز الأسباب غير الظاهرة أمام تشكيل الحُكومة. فغياب الإتفاق المُسبق على هذا الموضوع، يُؤثّر سلبًا على مسألة التشكيل ككلّ، حيث يسعى رئيس الحكومة المُكلّف إلى منع فريق رئيس الجُمهوريّة ومن خلفه "التيّار الوطني الحُرّ" بطبيعة الحال، من الحُصول على الثلث زائد واحد في الحُكومة المُقبلة، وذلك في إطار الصراع المَفتوح بين "التيّار" و"المُستقبل" على موضوع التحقيق الجنائي، حيث يَرفض "المُستقبل" ما يَعتبره إستهدافًا مُباشرًا من "التيّار"، يهدف إلى تحميله مسؤوليّة الإنهيار الحالي، عبر إدانة "الحريريّة السياسيّة" التي حكمت لبنان على مدى ثلاثة عُقود تقريبًا، مع بعض الإستثناءات.
ثانيًا: إنّ تحريك رئيس مجلس النوّاب نبيه برّي مسألة قانون الإنتخاب في هذا التوقيت المُستغرب، يَعود في جزء كبير منه–بحسب المَعلومات المُتوفّرة، إلى توجيه رسائل إلى "التيّار الوطني الحرّ" بالدرجة الأولى، وكذلك إلى حزب "القوّات اللبنانيّة"، أنّ تحريك ملفّ التحقيق الجنائي من قبلهما، لإستهداف قوى سياسيّة دون أخرى، سيُواجه بتحريك ملفّ قانون الإنتخابات بشكل لا يُناسب مَصالح الحِزبين المَذكورين الإنتخابيّة. وليس بسرّ أنّ مسألة التحقيق الجنائي، تدخل في سياق شدّ الحبال غير المُباشر، لكن المُتواصل، بين كلّ من "التيّار" و"حركة امل".
ثالثًا: بالنسبة إلى جلسة اليوم التي ستتمّ فيها مُناقشة رسالة رئيس الجمهوريّة، بشأن موضوع التحقيق الجنائي، فإنّه من المُتوقّع أن يتصدّى نوّاب كتلة "المُستقبل" لأيّ إستهداف لمرحلة حُكم رئيس الحُكومة الراحل رفيق الحريري، وسلفه رئيس "تيّار المُستقبل" الحالي، حيث سيُواجهون أيّ مُحاولة من جانب نوّاب "التيّار" أو غيرهم، لحصر مَسؤوليّة الإنهيار الحاصل حاليًا بما يُسمّى "الحريريّة السياسيّة" و"الهندسات الماليّة" التي رافقتها. وتتقاطع مصالح كلّ من الحريري-برّي على رفض إستهداف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة دون سواه، وسيسعيان معًا لمنع جعله "كبش محرقة". أكثر من ذلك، سيسعى نوّاب كتلة نوّاب رئيس المجلس النيابي خُصوصًا، إلى المُطالبة بأن يشمل التدقيق الجنائي مُختلف الوزارات والمُؤسّسات، وليس حسابات مصرف لبنان حصرًا، والهدف التصويب على وزارات كانت تحت سُلطة "التيّار الوطني الحُرّ" خلال العقد الأخير. وبالتالي، من غير المُستغرب أن تشهد جلسة اليوم مُحاولات تدمير سياسي ومَعنوي عبر مواقف كلاميّة حادة، حيث سيدّعي كلّ الأفرقاء أنّهم مع التحقيق الجنائي، وسيُحاولون تحميل الآخرين مسؤوليّة التهرّب منه، إخفاء لحقيقة تورّطهم في الصفقات والسمسرات، ولمسؤوليّتهم بخُصوص الإنهيار الحاصل على مُختلف الصُعد.
في الختام، يُدرك الجميع أنّ المُجتمع الدَولي لن يمدّ يد المُساعدة للبنان، ما لم تنطلق الإصلاحات، وما لم يحصل التدقيق الجنائي. وفي الوقت عينه، يريد كلّ الأفرقاء أن يظهروا بثوب البراءة إزاء كل ما حصل من هدر للمال العام على مدى عشرات السنوات، وأن يُحمّلوا سواهم مسؤولية ما حصل، في إطار مُحاولات إلغاء سياسي مُتبادلة. في كلّ الأحوال، طالما أنّالجهات التي ستدين، وتلك التي سُتدان هي نفسها، فإنّ الأمل بالوصول إلى الحقيقة، شبه مَعدوم، للأسف الشديد!.