يبدو أن بعض القوى السياسية لم تقتنع بأن هناك ما تغيّر منذ تاريخ الانتخابات النّيابية الماضية في العام 2018، لا سيّما بعد اندلاع الانتفاضة الشعبيّة في السابع عشر من تشرين الأول 2019، ولاحقاً الانهيار المالي والاقتصادي الكبير الذي ترك تداعياته على مختلف الصعد.
انطلاقاً من ذلك، تتعامل تلك القوى مع الملفّ الحكومي على قاعدة تقاسم الحصص الوزاريّة، الأمر الذي أدّى إلى إضاعة العديد من الفرص والكثير من الوقت، وأيضاً الى إهمال فاقع لمشاكل وهواجس المواطنين التي تزداد يوماً بعد آخر، من دون تجاهل حول كيفيّة تعاملها مع الدعوات إلى الإصلاح ومكافحة الفساد.
اليوم، في الوقت الذي يبحث فيه المواطن عن أيّ وسيلة تساعده في لملمة أوضاعه المعيشيّة، بعد أن فشلت كل محاولاته في "الاحتيال" على الكارثة التي وجد نفسه فيها، نتيجة فساد ونهب تلك القوى، وبعد أن تخطّت نسبة الفقر في البلاد 50%، هناك من وَجَد أن الوقت مناسباً لطرح ملف قانون الانتخابات النّيابية، مع ما يعنيه ذلك من رفع مستوى التوتر السّياسي والطائفي في البلاد، وصولاً إلى التلميح بالعودة إلى زمن الحرب.
يمكن الجزم بأنّ تلك القوى تعيش في كوكب آخر يبتعد كلياً عن المكان الذي يعيش فيه اللبنانيون، فلا هي تشعر بما يعانون منه ولا تفكر بما يفكرون به، هواجسهم وهمومهم مختلفة إلى حدّ بعيد، فهم لا يرون في هذا البلد وسيلة لتحقيق المزيد من المكاسب مهما كان الثمن، أما بالنسبة إلى المواطنين فهذا آخر ما يعنيهم، حتى ولو كانوا مهدّدين بالموت جوعاً أو مرضاً بسبب إهمالهم، أو حتى برصاصة طائشة من سلاح زعرانهم المنتشرين في الشوارع.
في ظلّ هذا الواقع، تتحضّر الكثير من الأسئلة التي من المفترض أن تطرح على بساط البحث، منها، على سبيل المثال لا الحصر، ما يتعلق برغبة المواطنين في أن يكون النقاش الطاغي، في هذا الوقت بالذات، هو قانون الانتخاب أو كيفية معالجة الأزمة الماليّة والاقتصاديّة أو على الأقلّ الحدّ منها، ولماذا لا يكون النقاش الفعلي في البلد حول كيفية تأمين ظروف تشكيل حكومة في أسرع وقت، بعيداً عن منطق المحاصصة، بدل التسليم لنظريّة انتظار التحوّلات الإقليميّة والدوليّة، الّتي لن تظهر معالمها قبل أشهر؟.
الأهم من كل ذلك، هو السؤال عمّا إذا كانت هذه القوى فعلاً تريد أن تبحث عن كيفيّة تحسين تمثيل اللبنانيين في الانتخابات النّيابية المقبلة، بعد أن رفضت بشكل قاطع الذهاب إلى انتخابات مبكرة خوفاً من أن تقود إلى خسارتها بعدد من المقاعد النّيابية، أما أن ما تطمح إليه هو زيادة قدرتها على الإمساك بالمجلس النيابي، أو إلهاء اللبنانيين عن همومهم اليوميّة بخلافات لا تطعم خبزاً ولا تغني عن جوع؟!.
ما ينبغي التوقف عنده ملياً، هو أن هناك طبقة سياسية قادت اللبنانيين إلى الجوع والفقر المدقع، ولا تملك أي وسيلة إنقاذ إلا التسوّل على أبواب الدول المانحة، بشروطها التي تقوم على رفض الإصلاح ومكافحة الفساد أو التغيير، تريد أن توهم العالم بأنها تبحث عن عدالة التمثيل وعن قانون انتخاب يقود البلاد إلى مصاف الدول المتقدمة من الناحية الديمقراطية، من دون أن تسأل نفسها عما إذا كانت وحدها تملك الشرعيّة لوضع هكذا قانون، ينتظره الكثير من الراغبين في إعادة دولتهم على أسس سليمة؟!.
في المحصّلة، لبنان أمام طبقة سياسية تتعامل على أساس المثل الشعبي القائل: "إن لم تستحِ إفعل ما تشاء"، وبالتالي على اللبنانيين انتظار الكثير من أفعالها "النيّرة" في المرحلة المقبلة، بغضّ النظر عن الظروف التي يمرّون بها، فالأساس هو كيفية بقائها في السلطة لا بقائهم على قيد الحياة.