شكل إقدام عملاء الموساد الصهيوني والـ «سي أي آي» على ارتكاب الجريمة الإرهابية باغتيال العالم الإيراني محسن فخري زادة، ضربة مؤلمة لإيران وحلفائها في محور المقاومة، لما للشهيد زادة من بصمات هامة في التأسيس لمسيرة التطوّر والتقدّم العلمي، ونجاح إيران، بقدراتها الذاتية، في امتلاك المعرفة والتقنية والتكنولوجيا، التي طالما كانت تحتكرها الدول الغربية والولايات المتحدة، وتحجبها عن دول العالم لتبقيها خاضعة وتابعة لها، اقتصادياً وسياسياً… لقد أدى هذا التقدّم العلمي إلى نجاح إيران في تحقيق الانجازات النوعية في المجالات كافة، من بناء المشروع النووي للأغراض السلمية وإنتاج الطاقة النووية، الى صناعة الدواء للأمراض المستعصية، ووصولاً إلى الصناعات المدنية، والدفاعية، والزراعية، وغيرها، مما مكن الجمهورية الإسلامية الايرانية من تحقيق التقدّم المضطرد، الأمر الذي وضعها في مصاف الدول الأكثر تقدما.. وجعلها أكثر استقلالاً ومنعة وقدرة في الدفاع عن نفسها وردع العدوانية الأميركية الصهيونية، وإحباط أهداف الحرب الناعمة، المتعددة الأشكال والأدوات، والتي لم تتوقف منذ انتصار الثورة الإسلامية التحررية عام 1979 بقيادة الإمام الخميني…
لكن الأسئلة التي طرحت في هذا الإطار هي:
لماذا جرى توقيت ارتكاب جريمة اغتيال هذا العالِم الكبير والمؤسّس للنهضة العلمية في إيران، في هذا الوقت بالذات؟
هل يؤثر اغتيال زادة سلباً على مسار البرنامج النووي واستمرار التقدم العلمي في الجمهورية الإسلامية؟
واستطراداً، ما هو شكل وطبيعة الردّ المطلوب على الجريمة؟
أولاً، في توقيت تنفيذ الجريمة، من الواضح انها جاءت في أعقاب اللقاء الثلاثي الأميركي الصهيوني السعودي في مدينة نيوم قرب الرياض، والذي جمع كلّ من وزير خارجية أميركا مايك بومبيو، ورئيس وزراء العدو الصهيوني بنيامين نتنياهو، وولي العهد السعودي محمد بن سلمان… ولقد أجمعت كلّ مصادر المعلومات والتحليلات الصحافية وتعليقات المراقبين والخبراء، على أنّ اللقاء ركز على كيفية وضع العراقيل أمام إمكانية عودة إدارة الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن إلى الالتزام بالاتفاق النووي الذي انسحب منه الرئيس المهزوم في الانتخابات الرئاسية دونالد ترامب، واستطراداً الحيلولة دون إقدام الإدارة الأميركية الديمقراطية على احتمال إلغاء العقوبات الاقتصادية والمالية التي فرضها ترامب على الجمهورية الإسلامية.. ومثل هذا الربط بين حدوث جريمة الاغتيال والاجتماع الثلاثي، يستند الى أنّ أطرافه وقفوا منذ البداية ضد الاتفاق النووي، ويخافون جدياً من عودة بايدن إليه، لا سيما أنّ الاتفاق تم توقيعه عام 2015 في عهد إدارة الرئيس باراك أوباما، وكان حينها جو بايدن نائباً للرئيس أوباما.. الذي واجه معارضة شديدة من قبل نتنياهو وولي العهد السعودي والمحافظين الجدد في واشنطن لمنعه من التوقيع على الاتفاق النووي، لكن من دون جدوى.. غير انّ ما يجب الانتباه أيضاً هو أنّ عملية الاغتيال تأتي في سياق الحرب الأمنية التي تشنّها الاستخبارات الصهيونية والأميركية لتصفية وإرهاب العلماء الإيرانيين، وقد نجح عملاء الموساد والـ «سي أي آي» في اغتيال نحو خمسة علماء على مدى السنوات الماضية.. ومعروف انّ الشهيد زادة كان موضوعاً في قائمة المستهدفين منذ أكثر من عشر سنوات لدوره الأساسي في تطوير البرنامج النووي وقدرات إيران الصاروخية والدفاعية، التي أسهمت في ردع واشنطن من الإقدام على شنّ الحرب، وأجبرت إدارة أوباما على التوقيع على الاتفاق النووي باعتباره أقلّ الخيارات سوءا بالنسبة لأميركا في ظلّ انسداد أفق الحرب بسبب مخاطرها، وفشل سياسة الحصار..
من هنا فإنّ توقيت تنفيذ جريمة الاغتيال جاء بالتزامن مع نجاح عملاء الموساد في إحداث اختراق أمني بشأن حركة العالم فخري زادة وتحديد سير موكبه في يوم الاغتيال ونصب الكمين المحكم له من قبل مجموعة مسلحة مدربة جيدا على تنفيذ مثل هذه العمليات الإرهابية.
ثانياً، هل يؤثر اغتيال زادة سلباً على البرنامج النووي والتقدم العلمي الإيراني؟
انّ كلّ من هو مطلع على حجم التطور العلمي والتقدم الحاصل في مجال الأبحاث العلمية على الصعد كافة، يدرك بأنّ اغتيال زادة لن يوقف هذا التطور، لأنّ الشهيد الراحل بنى مدرسة علمية خرجت آلاف العلماء في المجالات المختلفة، يتولون اليوم عملية الاستمرار في البحث العلمي والإشراف على مواصلة تطوير البرنامج النووي، وأنظمة الدفاع الصاروخية إلخ… وبالتالي فإنّ اغتيال بعض العلماء وإنْ كان يشكل خسارة كبيرة، إلا أنه لن يستطيع إيقاف مسيرة التقدّم العلمي، لأنها تقوم على قاعدة استراتيجية تؤمن لها الديمومة الذاتية عبر تعليم وإنتاج الكادرات العلمية باستمرار من جيل إلى جيل.. وهذا هو سر نجاح إيران الثورة في بناء مشروعها الحضاري والنهوض من دولة متخلفة لتصبح في عداد الدول الأكثر تقدماً…
ثالثاً، في شكل وطبيعة الردّ على جريمة اغتيال زادة، طبعاً الأمر يعود إلى قرار القيادة الإيرانية في تحديد الوقت، والمكان… غير أنّ ما يجب التأكيد عليه في هذا السياق، هو أنّ الأمر يتطلب الارتقاء باستراتيجية مواجهة الحرب الأمنية التي تمكن العدو الصهيوني من تحقيق تقدم فيها، بعد أن أدرك انه غير قادر لوحده على شن الحرب على إيران لتدمير برنامجها النووي وقدراتها الدفاعية من دون موافقة ومشاركة الولايات المتحدة التي تخاف من الإقدام على ذلك لعدة أسباب:
السبب الأول، انّ الضربات للبرنامج النووي قد تحدث أضراراً فيه وتعطله لمدة سنة لكنها لن تستطيع إيقافه، وستتمكن إيران بعد فترة من النهوض به مجدّداً طالما انها تملك القدرات والإمكانيات الذاتية لتحقيق ذلك…
السبب الثاني، انّ إيران تملك أسلحة متطورة قادرة على توجية ضربات قوية وموجعة للسفن الحربية والقواعد والمصالح الاستعمارية الأميركية في المنطقة وإلحاق خسائر جسيمة فيها مادياً وبشرياً… عدا عن انّ تدفق النفط من الخليج سيتوقف باتجاه الدول الغربية الصناعية مما سيلهب أسعاره ويتسبّب بأزمات اقتصادية كبيرة…
السبب الثاني، انّ الحرب قد تتحوّل إلى حرب واسعة في كلّ المنطقة وتجعل الكيان الصهيوني مسرحاً لضربات صاروخية من قبل إيران وحلفائها في محور المقاومة الذين باتوا يطوّقون كيان العدو بمنظومة من الصواريخ المتطورة والدقيقة، من الاتجاهات المختلفة من لبنان إلى سورية والعراق وغزة وصولاً إلى اليمن، وأن ذلك قد يؤدي إلى تعريض الكيان الصهيوني إلى خطر حقيقي يهدّد وجوده في ظلّ استعداد وقدرة المقاومة للدخول إلى الجليل في شمال فلسطين المحتلة والسيطرة عليه، وعدم قدرة جيش الاحتلال في منعها من ذلك كما أكدت مؤخراً تصريحات قيادته في أعقاب المناورات الدفاعية التي أجراها الجيش الإسرائيلي في الآونة الأخيرة.
انطلاقاً من ذلك فإنه إلى جانب التصدي الجاري للحرب الاقتصادية عبر التركيز على التنمية الاقتصادية وتحقيق الاكتفاء الذاتي وتطوير العلاقات مع منظومة الدول المناهضة للهيمنة الاستعمارية الأمريكية الغربية، يجب وضع استراتيجية لمواجهة الحرب الأمنية ان لناحية الردّ وبقوة على أيّ جريمة اغتيال او تفجير إرهابية، أو لناحية تعزيز الإجراءات الاحترازية والاحتياطية والهجومية الاستباقية لمنع عملاء العدو من النجاح في تحقيق أهدافهم الإرهابية…