بات من الواضح أنّ الجمهورية الإسلامية قرّرت الردّ على جريمة اغتيال عالِمها الكبير محسن فخري زادة على أيدي عملاء الموساد الصهيوني، لكن بطريقة ذكية ورادعة في ذات الوقت، تقطع الطريق على الهدف الصهيوني المُراد من وراء توقيت تنفيذ الجريمة وهو دفع إيران إلى ردّ غير مدروس يقود إلى إشعال حرب تريدها حكومة بنيامين نتنياهو ولا يعارضها الرئيس الأميركي دونالد ترامب، طالما أنها تؤدي إلى وضع المزيد من العراقيل والمصاعب أمام إدارة الرئيس المنتخب جو بايدن لدى تسلمه مقاليد السلطة رسميا في 20 كانون الثاني المقبل.. وبالتالي جعل عودته إلى الاتفاق النووي، الذي انسحب منه ترامب، إرضاء واستجابة لطلبات نتنياهو واللوبي الإسرائيلي الأميركي في واشنطن، أمراً مستحيلاً أو صعباً…
من المعروف عن القيادة الإيرانية أنها لا تقدم على ردود انفعالية، وهي تحسب جيداً خطوات وردود أفعالها على ايّ اعتداء تتعرّض له، وهذا ما لمسناه في طريقة إسقاط الطائرة الأميركية المتطوّرة من دون طيار لدى اختراقها الأجواء الإيرانية العام الماضي، وهي طريقة تجنّبت فيها إسقاط طائرة أخرى كان فيها جنود أميركيون.. وكذلك في ردّ إيران على اغتيال الجيش الأميركي للفريق قاسم سليماني قائد فيلق القدس في الحرس الثوري مع رئيس هيئة الحشد الشعبي العراقي ابو مهدي المهندس في مطار بغداد، عبر قصف قاعدة «عين الأسد» الأميركية في العراق بصواريخ إيرانية متطورة.. موجّهة بذلك صفعة لإدارة ترامب، اضطرت إلى ابتلاعها.
انطلاقاً من ذلك فإنّ القيادة الإيرانية يبدو انها قرّرت القيام بردّ متعدّد الأشكال على اغتيال زادة، في إطار استراتيجية متكاملة تبغي تحقيق الأهداف التالية:
الهدف الأول، تدفيع العدو الصهيوني ثمن جريمته وإفهامه بأنه لا يستطيع أن يعتدي على إيران من دون أن ينال العقاب.. وفي ذلك ردّ اعتبار للشهيد زادة والكرامة الوطنية الإيرانية.
الهدف الثاني، ردع العدوانية الصهيونية وجعل القادة الصهاينة يفكرون الف مرة في المستقبل قبل أن يفكروا بالاعتداء على إيران.
الهدف الثالث، عدم تحقيق أماني الكيان الصهيوني في خلق العراقيل أمام سعي إدارة بايدن المقبلة للعودة إلى الالتزام بالاتفاق النووي. وهو ما لا تريده حكومة نتنياهو وإدارة ترامب.
هذه الاستراتيجية الإيرانية في الردّ من الواضح أنها بدأت واتضحت خطوطها الأساسية، وهي ستأخذ نواحي عدة:
أولاً، قرار مجلس الشورى الإيراني بالتصويت على قرار ملزم لمنظمة الطاقة الإيرانية يقضي بالعودة إلى رفع تخصيب اليورانيوم بنسبة 20 بالمئة.. ومثل هذا القرار يشكل ضربة للهدف الإسرائيلي الساعي إلى تعطيل البرنامج النووي من وراء اغتيال العلماء الإيرانيين، وبالتالي إيصال رسالة قوية بأنّ اغتيال زادة لن يؤثر على البرنامج النووي بل أدّى إلى زيادة إصرار إيران على تطوير برنامجها والقول لكلّ الدول الغربية بأنّ طهران لن تبقى وحيدة ملتزمة بالاتفاق من الآن وصاعداً، فإما يلتزم الجميع ما يتوجب عليهم بالاتفاق، أو انّ إيران غير معنية بالحدّ من برنامجها ونسبة التخصيب وبإمكانها ان تحصل على كلّ ما تحتاجه من وقود نووي لمحطاتها، أو لأغراض الصناعات النووية بإمكانياتها الذاتية.
ثانياً، سدّ المنافذ التي يجري من خلالها كشف حركة العلماء الإيرانيين وتتيح معرفة المعلومات عنهم، وذلك عبر وقف العمل بالبروتوكول الإضافي في الاتفاق النووي، ووقف عمليات التفتيش التي يقوم بها مفتشو وكالة الطاقة الدولية، والذين تبيّن انّ بعضهم يقوم بمهمة التجسّس بثوب المفتشين ويقفون وراء تسريب المعلومات عن العلماء الإيرانيين للموساد الصهيوني والـ «سي أي آي».
ثالثاً، اتخاذ الإجراءات الأمنية الاستباقية بملاحقة عملاء الموساد والـ «سي أي آي» في داخل إيران، الى جانب اتخاذ إجراءات أمنية استثنائية احترازية لحماية العلماء على نحو يسدّ الثغرات التي نفذ منها عملاء الموساد لتنفيذ عمليات اغتيال عدد من العلماء في السنوات الماضية وصولاً إلى اغتيال العالم فخري زادة.
رابعاً، الردّ بعملية أمنية من نفس العيار الثقيل ضدّ كيان العدو الصهيوني لردعه والقول له انّ الردّ من الآن وصاعداً سيكون بالمثل على ايّ اعتداء أمني تتعرّض له الجمهورية الاسلامية.. بحيث تفرض معادلة ردعية على غرار المعادلة التي فرضتها المقاومة في لبنان في مواجهة ايّ اعتداء صهيوني.
فالعدو الصهيوني كما المستعمر الأميركي والغربي، لا يفهم سوى لغة القوة.. وأيّ تراخٍ أمام اعتداءاته إنما يشجعه على التمادي في حروبه الأمنية، ولهذا أعلنت إيران أنّ الردّ لا بدّ انه آت لكن بالتوقيت والمكان المناسبين بما يحقق الأهداف المطلوبة إيرانياً من جهة، ويحبط الأهداف التي سعت إليها حكومة نتنياهو من وراء تنفيذ جريمتها باغتيال العالم فخري زادة من جهة ثانية.
انّ اعتماد مثل هذه الاستراتيجية وإنْ جاء متأخراً، إلا أنه بات ملحاً ولا يحتمل الانتظار، لا سيما بعد أن خسرت إيران نخبة من خيرة علمائها، وأيقنت أنّ الاستراتيجية الأميركية الغربية الصهيونية تقضي بإبقاء إيران وحيدة ملتزمة بالاتفاق النووي، وفي نفس الوقت تصعّد ضدّها الحروب الاقتصادية والأمنية لإنهاكها والنيل من عناصر قوّتها وفي المقدمة تصفية علمائها، وصولاً إلى محاولة إضعاف قدرتها على الصمود ومقاومة سياسات الهيمنة الاستعمارية ومنعها من تعزيز وتحصين استقلالها ومواصلة دعمها قوى المقاومة ضدّ الاحتلال الصهيوني والهيمنة الاستعمارية الأميركية الغربية… لقد جاءت جريمة اغتيال الشهيد زادة بمثابة جرس زادة أظهر خطورة التعايش مع هذه الحروب الاقتصادية والأمنية، وضرورة انتهاج استراتيجية هجومية ردعية شاملة تضع حداً للعدوانية الصهيونية، التي تحظى بضوء أخضر أميركي غربي اتضح من خلال عدم إقدام العواصم الغربية على إدانة جريمة اغتيال زادة، التي تشكل اعتداء سافراً على سيادة واستقلال إيران وانتهاكاً موصوفاً للقوانين والمواثيق الدولية والاتفاق النووي، الذي تحوّل ليصبح اتفاقاً دولياً بعد أن صادق عليه مجلس الأمن الدولي..