قبل أسابيع، "هلّلت" الولايات المتحدة لما وصفته بـ"الانتصار الدبلوماسي" الذي تحقّق عبر موافقة لبنان، في عزّ حلقات "التطبيع" المتنقّلة، على الخوض في مفاوضاتٍ برعايتها مع إسرائيل، تختصّ بترسيم الحدود البحريّة.
لكن، بعد أربع جولات "ماراثونيّة" طويلة، يبدو أنّ الموقف الأميركيّ "المهلِّل" تراجع خطواتٍ إلى الوراء، مع الإعلان عن تأجيل جولة المفاوضات التي كانت مقرّرة هذا الأسبوع، "حتى إشعارٍ آخر"، وبطلبٍ أميركيٍّ مباشر.
ثمّة من ردّ الأمر لأسبابٍ "تقنيّة" محض، انطلاقاً من "الخلافات" التي رُصِدت في الجولة الأخيرة وما أعقبها، وهناك من ذهب أبعد من ذلك، فأعطاه أبعاداً "سياسيّة" لا يمكن القفز فوقها، في ضوء الأزمات اللبنانية المتراكمة.
وبين هذا وذاك، ثمّة من يتوجّس من أن يتحوّل ترسيم الحدود إلى أداة "ابتزاز" تستخدمها واشنطن في مواجهة لبنان، دفاعاً عن إسرائيل، وسط تساؤلاتٍ عن مدى قدرة لبنان على "الثبات" على موقفه في مثل هذه الحالة...
أسباب تقنيّة-لوجستيّة
لعلّها "مفارقة" معبّرة، في الظاهر قبل المضمون، أن يتزامن إعلان تأجيل مفاوضات ترسيم الحدود مع اجتماعٍ بين السفيرة الأميركيّة لدى لبنان دوروثيشياورئيس مجلس النواب نبيه بري، لا رئيس الجمهورية ميشال عون، إلا أنّها قد لا تعني الكثير، إذا "صدَقت" المصادر التي أكّدت أنّ الاجتماع المذكور "مُجدوَلٌ سلفاً"، ومقرَّرٌ منذ أكثر من عشرة أيام.
فصحيحٌ أنّ كلّ شيءٍ في لبنان يحتمل "التسييس"، بل إنّ فرضيّة "المؤامرة" تتفوّق على عدم أخذها بالاعتبار، في أيّ مقاربةٍ للشأن اللبنانيّ ودهاليزه التي لا تنتهي، إلا أنّ المعنيّين بمفاوضات ترسيم الحدود، كما المقرّبين من السياسة الأميركيّة، ينفون أيّ بُعْدٍ سياسيّ للتأجيل، ليضعوه في خانة "تقنيّة-لوجستيّة"، لا أكثر ولا أقلّ.
ويقول هؤلاء إنّ الفرضية "التخريبيّة" كان يمكن أن تبصر النور لو أنّ العكس هو الذي حصل، وتمّ الإبقاء على الجولة في موعدها المحدَّد من دون أيّ تمهيدٍ أو تقديم، ما كان يمكن أن يؤدّي إلى "نسف" المفاوضات، وبالتالي "تطييرها" عن بكرة أبيها، نظراً لما تركته الجولة الأخيرة من "ندوبٍ" غير بسيطة على خطّها، ترجِمت بالسجال الافتراضيّ الشهير الذي وصل إلى حدّ دعوة وزير الطاقة الإسرائيلي للرئيس اللبناني إلى مفاوضات "وجهاً لوجه".
من هنا، يشير بعض العارفين والمتابعين إلى أنّ التأجيل الذي حصل قد يكون "حفظاً لماء الوجه"، وتفادياً لـ"سيناريو" ليس في مصلحة أحد في الوقت الحاليّ، وفق ما يقول هؤلاء، لافتين في الوقت نفسه إلى أنّ خير دليل على ذلك، أنّ التأجيل أتبِع بمسعى أميركيّ لتقريب وجهات النظر، من خلال الحديث الإعلاميّ المكثَّف عن "مفاوضات منفصلة" سيجريها الجانب الأميركيّ، تمهيداً لإعادة الأمور إلى نصابها قبل عقد أيّ جولةٍ جديدةٍ من المفاوضات.
"فخّ" للبنان؟
قد تكون هذه القراءة صائبة ودقيقة، لكنّها لا تحجب وجود مقاربة مغايرة لها، في الشكل والمضمون، لا تعطي التأجيل بُعْداً سياسيّاً أو حتّى استراتيجيّاً فحسب، ولكنّها تذهب إلى حدّ ربطه بالمُعطى اللبنانيّ الآنيّ الحَرِج على أكثر من مستوى، والذي لا تبدو العلاقة مع الولايات المتحدة "محصَّنة" على خطّه أصلاً.
فهناك من قرأ في اجتماع شيا وبري مثلاً، رغم كلّ التبريرات التي أعطيت له، "لطشة" إلى عون، الذي بات ملفّ ترسيم الحدود بعهدته عملياً، خصوصاً أنّ العلاقة بين عون والأميركيّين تضرّرت في الآونة الأخيرة، بفعل العقوبات التي فرضتها الإدارة الأميركيّة على الوزير السابق جبران باسيل، وما تبعها من "أخذ وردّ"، وتجاذباتٍ بين الجانبين، لم تكن الرئاسة في لبنان بمنأى عنها بأيّ شكلٍ من الأشكال.
وثمّة من قرأ، استناداً إلى ما سبق، في التأجيل الأميركيّ رسالةً "بالغة السلبيّة"، لعدّة اعتبارات، أولها أنّ الهدف من المفاوضات التي يريدها للبنان قد تحقّق، وأنّ الإسرائيليّين انتزعوا "الاعتراف" الذي يبحثون عنه من اللبنانيّين، بدليل السجال الذي دار في الداخل مع بدء المفاوضات، التي تمّ تصويرها عن عمد في الخارج وكأنّها جزءٌ من مسلسل "التطبيع" الذي بلغ ذورته في الآونة الأخيرة، وهو ما ترجِم على خطّ العلاقة بين "التيار الوطني الحر" و"حزب الله"، وما "بيان الفجر" الشهير حول تركيبة الوفد سوى الدليل الأوضح على ذلك.
أما الاعتبار الثاني، والذي قد يكون الأهمّ، فيتعلق بوجود "نوايا ابتزاز" للبنان، من بوابة ترسيم الحدود، وفق منطق أنّ "الثبات" على الموقف الذي أعلنه الوفد في الجولة الأخيرة، سيقفل باب "الإنقاذ" الذي يتعلق به لبنان كمن يتعلق بإبرة في كومة قشّ، على مصراعيْه، بمعنى أنّ "تليين" الموقف اللبناني هو "شرطٌ" لأيّ بحثٍ في إخراج لبنان من "عزلته" المتفاقمة، علماً أن الكثير من القيل والقال انتشر أخيراً، حول أنّ ترسيم الحدود كان أحد الشروط التي طُلب من الوزير السابق جبران باسيل تلبيتها لتجنّب العقوبات عليه، وهو ما ألمح إليه وغمز من قناته أصلاً.
معسكران... ورماديّة!
ينقسم لبنان، على جري العادة، بين معسكريْن، يستند الأول إلى نقاط "قوّة" يقول إنّه لا يزال يمتلكها، وهو الذي لطالما أظهر "مآثر" في الصمود والمقاومة، ما يجعله قادراً على رفض أيّ "شروطٍ" لتعديل موقفه "الثابت" من ترسيم الحدود، وبالتالي على مواجهة أيّ "ابتزازٍ" له، للتنازل عمّا يعتبره "حقوقاً مكتسبة ومشروعة".
لكن، في المقابل، ثمّة معسكرٌ آخر، يعتبر أنّ "زمن القوّة" هذا قد ولّى، بفعل طبقةٍ سياسيّة فرّطت بالغالي والنفيس، وباعت الوطن بكلّ ما فيه بأبخس الأثمان، حتى بات اليوم "مُحاصَراً" بين خياريْن أحلاهما مُرّ، فإما يقبل بشروط وإملاءات الخارج، على حساسيّتها وخطورتها، طمعاً بـ"الشفقة"، وإما يمضي بحزمٍ وثبات نحو الكارثة، أو "جهنّم"، كما يفعل أصلاً.
ومع أن "لا رمادية" في المبدأ، في مثل هذه القضايا والظروف، إلا أنّ ثمّة من لا يزال يتأمّل بحمايةٍ ما، تقي لبنان كلّ الخيارات المُرّة، أملٌ قد يتبدّد إذا لم يبادر اللبنانيون قبل غيرهم، للقيام بما ينبغي عليهم، وفق المقولة الفرنسيّة الشهيرة "ساعدونا لنساعدكم"!.