تشكل الهجرة اليوم واحدة من وجوه الأزمة العالمية، حيث أنها تؤثر بطريقة أو بأخرى على المجتمعات كافة اقتصادياً، ثقافياً، اجتماعياً وسياسياً، سواء بالنسبة للدول المرسلة أو للدول المستقيلة. لقد وعى المجتمع الإنساني أهمية الهجرة ودورها متأخراً حيث انكبّ على دراسة أثر قدوم المهاجرين وانعكاس ذلك على المجتمعات المضيفة والإشكاليات التي تتولد عنها بعدم التكيّف أو الاندماج الحقيقي.
على أثر الأزمة الاقتصادية عام 2008 بادر العديد من الدول إلى إعطاء أهمية قصوى لهذه الظاهرة ولا سيما البلدان الأوروبية التي أولت موضوع الهجرة إليها اهتماماً خاصاً من خلال مجموعة متخصصة في "المركز الدولي لتطوير سياسات الهجرة" ICMPD وعمل هذا المركز بالتعاون مع دول الجنوب المرسلة للمهاجرين على وضع أفضل السياسات لموضوع الهجرة والتنمية لمنطقة أوروبا والشرق الأوسط وأفريقيا أو منطقة البحر المتوسط. هذا بالإضافة إلى نشاط الأمم المتحدة من خلال الاجتماعات غير الرسمية عبر المنتدى العالمي للتنمية والهجرة وكذلك إعلان العهد العالمي للهجرة في الأمم المتحدة 2016.
في هذه الأيام ومع انتشار وباء كورونا تجددت مخاوف الدول من موضوع الهجرة وبتنا أمام حقائق جديدة يلزمها حوار جديد، ومقاربات جديدة لهذا الموضوع، فالمجتمعات وخاصة المتقدمة منها-أوروبا-أميركا-أوستراليا، يسكنها الخوف من الهجرة وهذا الخوف باطني ويتعلق بما يلي:
مشاكل التجارة العالمية.
التطور التكنولوجي والاعتماد على الآلة التي تحل محل الإنسان.
خسارة الأعمال والتعصب تجاه المهاجرين.
تسيس موضوع الهجرة وادخاله ضمن البرامج الانتخابية.
يلاحظ في هذا المجال أن الدول الأكثر تقدماً هي الأكثر تأثراً وخوفاً من الهجرة خاصة البلدان الأوروبية والبلدان الأميركية وأوستراليا، وان تختلف عن بعضها البعض بالموقع الجغرافي لجهة سهولة أو لصعوبة الوصول إليها، فالوصول إلى أوروبا والولايات المتحدة أسهل من الوصول إلى كندا وأوستراليا على سبيل المثال. لذلك نرى أن بعض الدول متفهمة لواقع المهاجرين(كندا-أوستراليا)، وتضع الخطط اللازمة لاستيعابهم بحيث لا تطغي الأكثرية السكانية المحلية على الأقليات المهاجرة وتشجع على الإندماج من ضمن برنامج يتكيف فيه المهاجر مع المجتمع الجديد المضيف.
الاستيعاب انطلاقاً من نظرية استثمار رأس المال البشري.
إن اعتبار الهجرة استثماراَ في رأس المال البشري يسهل الوصول إلى حلول مقبولة للهجرة وعليه ان وضع آليات لذلك يمكن أن تكون قراراً صائباً خاصة للدول التي تخاف من الهجرة. وعليه تكون هذه الآليات وفق هذه المعايير:
قبول الكفاءات والمواهب.
تبادل الثقافات.
تبادل المنافع.
إذ أن الإنسان يقدم خدمات أكثر من الآلة والاقتصاد يتعزز باليد العاملة الخيرة.
إن العامل الإنساني والتعامل مع المهاجرين بإنسانية وموضوعية لأن عدم استيعاب المهاجرين يحولهم إلى مجرمين بعد أن حوّلهم النظام السياسي العالمي إلى مهاجرين. لذلك فإن على راسمي السياسات العامة في الدول المستقبلة أن يأخذوا بعين الاعتبار كل الأبعاد المتعلقة بالإنسان المهاجر لا سيما :
البعد المعنوي: ربما يكون المهاجر صاحب كفاءة عالية في موطنه واضطر إلى الهجرة من موطنه.
البعد المادي المرتبط بالفرق بين الأجور في بلده وفي بلد المقصد.
البعد الإنساني.
البعد القانوني.
البعد الأمني.
طبعاً لا يجب أن نستثني موضوع الإرهاب إنما يجب أن يدرس هذا الموضوع بعناية شفافة وعميقة حتى لا نظلم أحداً لأسباب سياسية.
المهاجرون فئات إنسانية متعددة.
انطلاقاً مما تقدم وعند دراسة خطط القبول والاستيعاب للمهاجرين علينا أن ننتبه من عدم خلق مشاكل اجتماعية مستقبلية للدول المضيفة بأن لا نساعد على خلق مجتمعات فقيرة جديدة أو "ضواح" (جمع ضاحية) فقيرة على جوانب المدن حيث أنه نلاحظ ان المهاجرين الفقراء يهاجرون عادة إلى المجتمعات الفقيرة داخل الدول.
لذلك يجب عدم السماح لفئة سياسية شعبوية أن تخطف المجتمعات وتبعدها عن روحها الإنسانية وتوجهها ضد المهاجرين لأسباب سياسية.
يجب أن نتعاطى مع قضايا المهاجرين بحكمة كبيرة إذ أن خصائص الشعوب يمكن تكييفها لكن لا يمكن تغيرها خاصة العرق، اللون، الديانة، العادات والتقاليد. لذلك يجب العمل على إدماج المهاجرين وذلك انطلاقاً من دراسة أوضاعهم وأصولهم وعاداتهم وتقاليدهم. وأخذ أفضل ما عندهم وإضافته إلى أفضل ما عند المجتمعات المستقبلة. يجب أن نخلق قيم وطنية نجمع عليها الاتينيات المختلفة وهذه القيم تكون قيم وطنية مشتركة للجميع.
يقول الألماني يورغن هابرماس:"إن الوطنية الدستورية هي ولاء المواطن لمجموعة من المبادىء والمثل والعدالة والتي يحددها دستور الأمة"، لأن هناك بعض الأمور تحدد روح المواطنة وتكون مقبولة من الجميع لأن الانتساب إلى القيم الوطنية في الدستور تؤمن الوحدة بين المواطنين والعيش المشترك وترسي السيادة الوطنية المسؤولة.
الاهتمامات العالمية بموضوع الهجرة. تدور حالياً نقاشات عميقة حول موضوع الهجرة خاصة في ظل التباطؤ الاقتصادي وفي ظل وباء كورونا، الذي ضرب العالم بأسره وأصاب كل الاقتصادات العالمية وتسبب في أكثر من دولة في انهيار العقد الاجتماعي.
وقد أثّر على الدول المتقدمة أكثر من غيرها مما جعل بعضها بعيداً عن المنطق الإنساني وشعرنا أننا عدنا إلى عالم القرن التاسع عشر عالم الأوقات الصعبة وعالم المواجهات دون حلول.
وأصبحت بعض المجتمعات القائمة على مبادىء الديموقراطية والحرية في خطر لأن القيم فيها بوضع خطر نظراً لتثبت بعض القادة السياسيين بآرائهم بالنسبة للهجرة وبالوقوف ضد المهاجرين.
بالخلاصة: إن الهجرة ظاهرة تتعدى الحدود الوطنية إلى العالمية ولها تأثير على استقرار المجتمعات وأمنها لذلك نحن بحاجة إلى إجراء حوار لحل هذا الموضوع لأن الديمقراطية اليوم تعيش اختلافات حادة بالنسبة للمهاجرين.
فكما للهجرة سلبيات لديها إيجابيات كثيرة وعلى من يتعاطى بوضع السياسات الخاصة بها عليه أن ينطلق من منطلق الحفاظ دائماً على احترام الآخر وفهمه.
وكما عالجنا في الماضي مواضيع الهجرة بمسؤولية عالية بحوار بين دول الشمال ودول الجنوب وهيئات المجتمع المدني قادرون اليوم على الحوار بكثير من الواقعية وبمعايير مختلفة توفق بين القيم والرؤى الوطنية وبين حاجات المهاجرين فإيجابيات الهجرة أكثر من سلبياتها والعالم أصبح مفتوحاً على بعضه البعض لذلك علينا اتباع سياسة بناء الجسور وهدم الجدران وهي تستحق البحث المعمق والحوار والتعامل مع الهجرة بشكل صحيح خاصة في الظروف التي يعيشها عالم اليوم لا سيما الاتحاد الأوروبي الذي سيواجه هجرة طويلة الأمد من الجوار الأفريقي والجوار الشرق متوسطي.
رئيس المنتدى اللبناني للهجرة والتنمية هيثم جمعة