ترعرع الفنّان الأميركي بيل فيولا في مدينة نيويورك في سبعينات القرن المنصرم. خلّصه قصر نظره من التجنيد الأجباري في حرب فيتنام و المحاربة كما غيره من أبناء جيله في حقول الأرز مع الجيش الأميركي.
فيولا الذي بدأ مشوار حياته الفنيّة كعامل تقني بسيط، أصبح اليوم أب وعرّاب فنّ الفيديو. و قدّ صرّح في العديد من المقابلات أن بداياته البسيطة ساعدته على فهم التقنيّة الجديدة. فأتقن عمليّة التلاعب في التأثيرات البصرّية و المونتاج . و قد أثّرت هذه الخبرة المكتسبة إيجاباً في إيصال أفكاره الفنيّة بطريقة أقوى من الناحية التقنيّة للمادة الالكترونيّة.
أما بالنسبة لموضوعاته، فقد تنوّعت أهتمامته. بدأ مسيرته في عمل فيديو سياسي معارض لحرب فيتنام إسمه: "Tape I" "شريط أنا". لكن إهتمامه السياسية حُصرت بهذا العمل فقط. أمّا شهرته فقط ظهرت من خلال إهتمامه بالمواضيع الدينيّة. وهو الأمر الذي كان يُعتبر من المخاطرات الفنّية الكبيرة في بداية الثمانيّات من القرن المنصرم والتي قد تُنجح فنان الى العالميّة أو تُدمّره كليّاً. وقد أكّد على هذا الأمر في عدّة مقابلات أجراها حول " A Room For St John the Cross "1984 "غرفة للقديس بولس الصليب" حيث سمى ألاشياء بأسمائها و لم يتنصًل من المرجع الديني المباشر للعمل وهي أشعار القديس بولس الصليب وسيرته التي أستعادها في تأليف التجهيز الفنيّ. إستفاد فيولا من دعم الكرسي البابوي للأعمال الفنّية خصوصا عندما كتب البابا جان بول الثاني رسالة بابويّة للفنانين يدعوهم للأبداع. فحصل بذلك فيولا على الشهرة العالميّة وإحترام ودعم الوسط الفنّي للأعمال التي قدمها من بعدها.
لم ينحصر أهتمام فيولا بالدين المسيحي فقط، بلّ تعدّاه الى جميع الديانات ألكتابيّة أيضاُ. فنرى تأثر واضح بالدين اليهودي عبر قصّة الطوفان التي حوّلها الى فيديو فنّي يحمل نفس اسم ومضمون القصّة في أطار معاصر للأحداث. أما تأثره بالدين الإسلامي صاحبه إهتمام بالفكر الصوفي وتحديدا بأشعار جلال الدين الرومي.
يبرّر فيولا إهتمامه في الدين ككلّ ولا يحصره بشقّه العقائدي البحت أنّما يهتمّ بشّقه الإيماني الروحاني. و يذكر دوماً تأثير الزيارة الطويلة التي قام بها الى اليابان التي أثارت إهتمامه بعلاقة الفنّ بالايمان لدى المتلقي. فقد رأى اليابانيين يدخلون الى المتحف للصلاة أمام تمثال البوذا داخله.
فتحوّلت أهتمامته الفنّية الى مواضيع روحانيّة بحتة كفكرة الزيارة، الخلق، الموت، القيامة والخوف من الموت والعقاب، أفكار جسّدها بإستعمال العناصر الأربعة. فإستعمل الماء والنار في معظم أعماله. فاستعان بخبرات ممثلين محترفين في إنتاجاته الضخمة. فمشوا في الصحراء تحت أشعّة الشمس الحارقة، وجرفتهم المياه العاتيه بالطوفان الذي أعاد تمثيله ، أغرقهم في معظم أعماله و صوّرغرقهم الهادئ ، وأحرق أجسادهم ليتحوّلو الى ذبائح بشريّة متحركة معلّقة بين السماء والأرض.
حرّك فيولا الغرائزالاساسيّة للمتلقي، غريزة الحياة و الموت مقنّعة بهدؤء الملائكة. هو الذي صوّر ألايام الأخيره لوالدته و هي تفارق الحياة على فراش الموت في المستشفى، قابله فيديو لإمرأة تضع مولودها.
هذه الازدواجيّة بين الموضوع والطريقة التي أعتمدها في التنفيذ عبّدت الطريقة التي سلكها فيولا في أعماله. سرّ خلطة فيولا هو التلاعب بعنصر الوقت. فأعاد عرض المشهد المصوّر ببطئ شديد. لا يرى من خلاله المتلقي غير أجساد تتمايل بخفّةٍ وحساسيّة مرهفة، كما تتمايل راقصات الباليه الكلاسيكي بنعومةٍ و سلاسة، تحرّك أعماق المتلقّي في هذا الهدؤء المصتنع و تنقله الى أبعاد حسيّة دفينة تتلاعب به على الصعيد الحسي والبصري. يتأمل بدهشة الفيديو المعروض على شاشات ضخمة في غرفة يسودها الظلاميحتويه الهدوء و تسمّره العظمة . فيتمايل و يحسّ بتفصيل و جمالية كلّ حركة يؤدّيها الممثل خلال التصوير.فيقع -كالكثيرين- تحت تأثير فيولا السحري.
لا يغرّك هذا السلام المصتنع، ففي الحقيقة فيولا الفنان الهادئ المسالم يخفي بين طيّات أعماله عنف متقنّع لا ينتبه له الاّ قلّة. فإذا حللت أعماله الفنّية لوجدت أن فيولا يخفي ساديّة عنيفة متستّرة بقناع الروحانيات. واكتشفت أنّ العمل مع فيولا لهو أمر شاق جسديا ونفسيّاً. فهو يعرّض ممثليه لكافة أنواع التعذيب المقنّع بالفكرة السامية. يحرقهم يغرقهم يعلّقهم بين السماء والأرض، يخيفهم و يمتحن قدرة تحمّلهم للعذابات الجسديّة التي يُعرضهم لها.
هذه الساديّة هي خيط الوصل في معظم أعماله خصوصاً تلك المتّصفة بالروحانية بشكل مباشر. كأنّ ظهور الروحانيّة لا يكتمل إلاّ من خلال المطهر المحضّر والمفروض من فيولا.
قد يجادل البعض فكرة قبول الممثلين للعب الدور المسند اليهم بإحترافيّة ويزيد على أهمّية قدرات الممثل الجسديّة بتجسيد الشخصيّة. وهو أمر عادي وتلقائي. المشكلة عند فيولا لا تكمن بقبول الممثلين إنما بتوصيف العمل. فعندما يوافق أحد الممثلين على المشاركة بفيلم سينمائي يوَصّف هذا الفيلم درامي تجاري قتالي والى ما هنالك، وعلى أساسه يُعرض الفيلم بحسب الشروط المفروضة عالمياً. أماّ فيولا فقد تنصّل من هذا التصنيف تحت غطاء الروحانيّة المفترضة.
فتقبّل الوسط الفنّي هذه الساديّة الروحانيّة، لعِب من خلالها فيولا دور الخالق الآمر الناهي، المتحكّم في الممثلين وعرّضهم لعذابات جسديّة. والجدير بالذكر أنّ فيولالم يستثني في أعماله الفنّية فئة معيّنة من الناس،قفد عَمِل مع الاطفال النساء الرجال من كلّ الفئات العمريّة و العرقيّة. ولم يخشا من التعاون مع ممثلين مخضرمين، بلّ بالعكس عمل في 2016 على فيديو: "الغافون"”The Sleepers” مستعيناً بممثلين من الفئة الأولى كجايك جيلين هول المرشّح على الاوسكار كممثل مساعد في 2006 عن دوره في "بروكباك ماوتن" ومارغو روبي الحاصلة على الاوسكار كأفضل ممثلة عام 2018 عن دورها في فيلم " سونيا". حيث لعبوا دور الغافون تحت المياه و أعينهم مفتوحة ينظرون الى عدسة الكاميرا بهدوء و يخفون أي أثر للهلع والخوف.
السؤال المطروح كيف أستطاع فيولا إقناع الوسط الفنّي بالساديّة المقنّعة أكان على صعيد المموّلين و العاملين معه؟ والأهمّ من ذلك كيف لم يتجرأ أحداً ذكر الساديّة والعنف وهو يدرس ويحلل فنّ فيولا؟ فهل السبب علاقاته الفنيّة القويّة أم تقبّل الجمهور للعنف عامةً؟ سؤال يُترك للرأي العام وتاريخ الفنّ.