في بداية اجتماع مجلس الدفاع الاعلى تعمّد رئيس الجمهورية العماد ميشال عون توجيه رسائله التي كان قد اشبعها درساً، ورسم سياسته للأشهر المقبلة على اساسها. هو قال بأنّ ولادة الحكومة مسألة ستأخذ وقتاً طويلاً.
اتبع عون رسالته الاولى برسالة ثانية، ابدى فيها تمنياته بتوسيع هامش تصريف الاعمال للحكومة المستقيلة. الرئيس حسان دياب، الذي كان حاضراً، حافظ على صمته وضمناً على قراره، بعدم التجاوب مع دعوات اعادة تفعيل عمل الحكومة المستقيلة. مرة لأنّ الشارع السنّي سيعتبر ذلك التفافاً ومحاصرة للرئيس المكلّف بتشكيل الحكومة، ومرة ثانية لعدم رمي اثقال واعباء رفع الدعم وغضب الناس على كاهله وحده، ومرة ثالثة لردّ الصفعة التي تلقّاها من الرئيس نبيه بري والذين ساندوه في خطوة استدعاء حكومته امام مجلس النواب، ما ادّى الى «انهيار» بعض وزرائه، وبالتالي اعلان استقالتهم، وهو ما اجبره على تقديم استقالته.
ومرة رابعة واخيرة، بسبب الضغوط التي مارسها رئيس «التيار الوطني الحر» جبران باسيل، بدعم او على الاقل بصمت من رئيس الجمهورية، ما ادّى الى ضرب هيبة حكومته، بسبب المحاصصة في التعيينات وإلزام الحكومة في السير بها، كما في العودة عن قرار وضع جانباً قرار بناء معمل لتوليد الكهرباء في سلعاتا. وبالتالي، فإنّ علاقة دياب الباردة برئيس الجمهورية منذ اعلانه استقالة الحكومة، لا تسمح بتحدّي الجميع وتوسيع هامش تصريف الاعمال.
وربما كانت الرسالة الثالثة لعون، وهي الأهم، وذلك بفتح الطريق امام توسيع صلاحيات مجلس الدفاع الاعلى.
لكن الخلاصة الأبرز من كلام رئيس الجمهورية، هي انّ ملف تشكيل الحكومة سيبقى معطلاً وعلينا تدبّر انفسنا في هذه المرحلة.
وعلى مسافة ليست بعيدة عن الموقع السياسي للرئيس عون، فإنّ القوى المتحالفة معه تهمس سراً، انّ الولادة الحكومية لن تحصل بالتأكيد قبل 20 كانون الثاني المقبل، موعد تسلّم جو بايدن لمهامه الرئاسية الاميركية.
صحيح انّ العديد من المراقبين لا يجدون رابطاً واضحاً بين الاستحقاقين، الّا انّ الكواليس الديبلوماسية تقرأ في الترابط الخفي الحاصل. ذلك انّ الرئيس سعد الحريري ملتزم بالمبادرة الفرنسية، التي ترتكز على ولادة حكومة طابعها تقني اكثر منه سياسي، خصوصاً في بعض الحقائب التي ستشهد اصلاحات واستثمارات اجنبية. ما يعني انّ هؤلاء الوزراء يجب ان يكونوا اصحاب قرارهم، وفق المصالح التي تقتضيها الملفات المطروحة، لا ان يكون قرارهم مرتبطاً بمسؤول سياسي لديه مصالحه الخاصة، كما اثبتت القرارات الصادرة عن الحكومات المتتالية.
اضف الى ذلك، انّ هذه الحكومة، التي ستواكب استحقاقات داخلية مهمّة مثل ترسيم الحدود البحرية، والانتخابات النيابية التي تخشاها بقوة الاحزاب والقوى السياسية في السلطة، وربما الاستحقاق الرئاسي، لا بدّ ان تكون تركيبتها قادرة على انجاز هذه المهام، بأقل قدر ممكن من مصالح الطبقة السياسية اللبنانية.
وهو ما يعني انّ رئيس الجمهورية، الذي يسعى بقوة في الثلث الاخير من ولايته لإعادة تعويض جبران باسيل بعض خسائره، يريد ثلثاً معطلاً، وايضاً حقيبة الطاقة، من دون ان يعلن عن ذلك. كما انّ حليفه «حزب الله» مرتاب من تشكيلة حكومية تُفقده قدرة التأثير على قرارات الحكومة، وبالتالي، فإنّ مفتاح الحل موجود في يد «حزب الله»، الذي لن يتحرك لتدوير الزوايا، قبل حصوله على ضمانات والتزامات جانبية، وسط غموض الرؤيا الاقليمية، واعلان الرئيس الاميركي المنتخب وجوب إدخال تعديلات على الاتفاق النووي يشمل نفوذ ايران، اي دور «حزب الله» في لبنان والمنطقة. وبالتالي، فإن الاستنتاج المنطقي يدفع للاعتقاد بوجوب انتظار استلام الادارة الجديدة لحصول التفاهمات الجانبية.
لكن المشكلة، انّ ادارة بايدن لن تكون مهتمة «بشراء» ورقة الحكومة اللبنانية. هي ستتوجّه مباشرة الى ايران، وتتوقع مرحلة شدّ حبال صعبة ستطول ربما الى حوالى السنة.
اضف الى ذلك، إنشغال ادارة بايدن بالمشاكل الداخلية، حيث ستستمر المعركة، بدليل سعي ترامب الى صدور قرارات بالعفو عن افراد عائلته القلقين من الملاحقات القضائية.
والطرف الدولي الوحيد المهتم بالواقع الخطير الذي يمرّ به لبنان هي فرنسا. لكن المشكلة انّ الاطراف السياسية في لبنان ومنهم «حزب الله»، تعتقد انّ الأثمان المطلوبة لا تستطيع فرنسا دفعها، فوحدها الولايات المتحدة الاميركية لديها القدرة على ذلك.
لكن باريس تتسلح هذه المرة بضوء اخضر من بايدن، بعد ان كان اصفر مع ترامب. اضف الى ذلك، عودة الحضور الفرنسي والاوروبي الى ملف الاتفاق النووي، ذلك انّ بايدن ومعه وزير خارجيته انطوني بلينكن، يؤمنان بإعطاء القارة الاوروبية دوراً اقوى في المفاوضات مع ايران. كما انّ الاخيرة تريد ايضاً دوراً اوروبياً أكبر، كمكافأة لها على تميّزها الى حدود الخلاف مع دونالد ترامب في مسألة النووي الايراني.
اضف الى ذلك، انّ الدور الاوروبي قد يقيها من احراج التواصل المباشر الكامل مع الدولة التي اغتالت قاسم سليماني، وساعدت اسرائيل في اغتيال كبير علمائها النوويين. وربما يعتمد الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون على هذه الخلفية في زيارته الثالثة الى لبنان، حيث سيلتقي المسؤولين اللبنانيين. والزيارة حُدّدت مبدئياً في 23 كانون الاول، اي عشية عيد الميلاد، إلّا اذا طرأ ما يستوجب تعديل الموعد.
ويكشف احد افراد الفريق المعاون لماكرون، انّ الرئيس الفرنسي يعمل على تحضير «هدية» للبنانيين سيعلنها خلال زيارته. ورفض المصدر الكشف عن مضمون هذه الهدية.
في المرة السابقة اتى ماكرون بمساعدات انسانية واخرى مدرسية طالت 53 مدرسة وزهاء 60 الف تلميذ اي حوالى 10% من طلاب المدارس الخاصة.
لكن الاوضاع ازدادت سوءاً منذ زيارته الثانية في ايلول الماضي. ارتفعت وتيرة الانهيار، الدولة فقدت هيبتها بالكامل ومؤسساتها اصبحت بمعظمها حطاماً. الفقر في لبنان ووفق البنك الدولي، يسجّل منحى تصاعدياً ليصل الى اكثر من نصف الشعب اللبناني، اي انّ الطبقة الوسطى تكاد تزول، مع العلم انّ نسبة الفقراء في لبنان بلغت حوالى 20% في العام 2014. كما تدنت القدرة الشرائية للعملة اللبنانية الى حوالى 80 % فيما لا يحظى حوالى 44% من اللبنانيين بأي نوع من انواع التأمين الصحي.
وفيما تشكّل الجالية اللبنانية في فرنسا احدى اكثر الجاليات تأثيراً، فإنّ الرؤيا الفرنسية للبنان بأنّه بلد اساسي لتحقيق التوازن الاقليمي. وبالتالي، فإنّ الحضور الفرنسي في لبنان يحمل ضرورة مشتركة فرنسية ولبنانية. ولم تكن مجرد صدفة ان تتزامن زيارة ماكرون الثانية الى لبنان مع زيارة اخرى الى العراق. فثمة خيوط اقليمية تربط ما بين الزيارتين.
في الواقع، قد يكون «حزب الله» يدرك حاجة باريس لإعادة صياغة سياسة مشتركة مع طهران، في ظلّ المواجهة الفرنسية المفتوحة مع تركيا. هذه المواجهة التي شهدت حرباً امنية واستخباراتية خفية وعنيفة وصلت الى الاراضي الفرنسية.
ومعه، فإنّ «حزب الله» يدرك انّ باريس المتسلّحة بالدعم الاميركي هذه المرة، هي بحاجة لتعاون «حزب الله» معها في لبنان، ولتفاهم اقليمي مع ايران. كما تدرك باريس في المقابل، انّ لايران ايضاً مصلحة في هذا التعاون، بعد نجاح تركيا ومعها اسرائيل في تحقيق انتصار ناغورنو كاراباخ والتمركز عند ابواب الحدود الشمالية لإيران.
واذا كانت الصورة الاقليمية قادرة على الانتظار بعض الوقت، وادخال الرعاية الاميركية لصياغة التوازنات، الّا انّ الواقع اللبناني هو على شفير الفوضى الشاملة.
ولم يتردّد البابا فرنسيس من ابداء قلقه الشديد على لبنان عند استقباله المطول للبطريرك الماروني بشارة الراعي. ووفق اوساط مطلعة، فإنّ رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم ابدى انزعاجه الشديد من التقارير التي تتحدث عن موجات الهجرة للشباب اللبناني، والتي وصلت الى حدّ النزف بسبب الاوضاع المعيشية الصعبة، وعدم الثقة بالطبقة السياسية. وهو وعد بأنّه سيتولّى القيام باتصالات دولية من اجل لبنان، لا سيما مع واشنطن، خصوصاً وانّه كان شديد التأثر بالحال التي وصل اليها لبنان، حيث الخطر اصبح وجودياً.
لكن البابا فرنسيس، وبعد ان شكر البطريرك الراعي على دعوته لزيارة لبنان، ابدى رغبته في حصول الزيارة ولكن ليس الآن لسببين اساسيين: الاول ويتعلق بوباء كورونا، الذي سيمنع حصول تجمعات للمؤمنين الذين سيودون حضور القداس الاحتفالي. وعلى سبيل المثال، كان البطريرك الراعي يرغب في اقامة قداس على راحة نفس ضحايا انفجار المرفأ، في ذكرى مرور اربعين يوماً على الكارثة، وذلك على ارض المرفأ. وجرى يومها البدء بالتحضيرات العملية لذلك، الّا انّه سرعان ما جرى صرف النظر بسبب كورونا، وجرى استبداله بقداس اقيم في حريصا مع الشروط الصحية الآمنة المطلوبة.
والثاني يتعلق بالمشاكل السياسية التي يعاني منها لبنان، كمثل عدم وجود حكومة، اضافة الى انّ السلطة اصبحت بعيدة عن الشعب، وهي تحاور نفسها فقط. فيما رأس الكنيسة الكاثوليكية بحاجة لوجود دولة لتستقبله.