«غابةُ الظُّلم سَرَتْ منها الضَّواري
حين لا يقوى على الإدلاج ساري
غابةٌ ما أخرجتْ إلا وحوشاً
تتشهّى مَضْغَ أكباد الصِّغار»
(عبد الرحمن العشماوي)
ليس أبلغ تعبيرًا عن خبرية قرار «حزب الله» اللجوء إلى القضاء اللبناني لردع من يتهمه أو يهاجمه في الإعلام من السياسيين غير المثل اللبناني المعروف «ضربني وبكى وسبقني واشتكى». ما هو واضح هو أنّ الحزب يستخدم وسائل إرهاب جديدة، وهي مسألة المحاجة القانونية. والمقصود هنا هو تجييش المحامين والقضاة المتعاطفين والتابعين والمؤيّدين له، لإرباك ساحة المقاومين لسطوته. بالتالي دفع بعضهم، أو ربما معظمهم، الى تفادي استعمال العبارات الواضحة والصريحة في توصيف هذا الحزب. في المقابل، فهو يستنفر كالعادة جيش الشتّامين والردّاحين وكتبة التقارير، الذين يعتاشون على ماله النظيف، لتشويه سمعة المقاومين الحقيقيين الذين ما زالوا يقولون كلمة حق في وجه سلطان جائر ومتسلّط وفاجر، لم يتورع عن ترهيب حتى رجال الدين الأجلاء من علماء الشيعة الكبار، لمجرد أنّهم من غير أتباعه، أو يرفضون الدخول في جوقة الطبالين له ولزعيمه، أو ربما يذهبون إلى اجتهادات فقهية، في رفض أو نقد أو بطلان مسألة ولاية الفقيه. وهنا السلسلة تطول من الأسماء المحترمة والمتوازنة التي تفهم الفقه بمنظوره الديني والإنساني المتحرّر من الأساطير التي تسعى الى خلق أصنام جديدة بدافع شهوة السلطة ليس إلّا.
الضحايا الآخرون هم المواطنون الشيعة الذين أُسقطوا قسرًا تحت أوهام ردّ الاعتبار لمظلومية عمرها قرون طويلة، وأساطير مستجدة بدأ الشبان والشابات يعتقدون أنّه في صلب العقيدة الإثني عشرية، فتبعوها من دون هدى، وبعضهم تحوّلوا شهداء أو مشاريع شهداء في خدمة من وضع أسس الدعاية لها على الطريق ما بين طهران وبيروت في الحاضر، وما بين الصفوية الأصلية وتلك المستجدة في التاريخ. وهنا، من هم أولى برفع القضايا إلى القضاء هم أهل هاشم السلمان الذي استشهد أمام سفارة الولي الفقيه رافعاً، كما كان الإمام الحسين، رغم قلة حيلته وقصر باعه، صوته في وجه من يستضعفه ويدّعي نصرة المستضعفين. كذلك هم من تعرّضوا للترهيب لمجرد أنّهم شيعة لا يدينون بالولاء للحزب، فخرجوا عن طورهم وكالوا الشتائم، ثم أُجبروا على الاعتذار وإعلان الولاء للسلطان المستكبر، صاغرين مقهورين ومستضعفين. والضحايا الإضافيون هم من يعيّرهم نصرالله بأنّهم شيعة السفارة الأميركية، مع علمه أنّه من شيعة السفارة الإيرانية.
الضحايا الآخرون، ولكن عليهم اللجوء إلى محكمة العدل الدولية المرتبطة بقضايا الإبادة الجماعية والتطهير المذهبي، هم أبناء القصير والقلمون والغوطة في سوريا، الذين شملهم منطق الترانسفير المذهبي خلال سنوات الحرب المستمرة في سوريا، وكان المنفذ الحزب نفسه المذكور. كما يمكن أن نزيد ملايين المهجرين واللاجئين والمسحوقين تحت الركام هناك في حلب وحمص وحماة وإدلب... من دون إضافة عشرات العمليات الإرهابية العابرة للحدود، التي يتباهى الحزب بأنّه ينفذها، لتتحقق مقولة الذراع الطويلة للحرس الثوري، وهي المقولة ذاتها لوريث عصابات الهاغانا جيش الدفاع الإسرائيلي.
لكن، ماذا عن لبنان كله؟ فعلى رغم من أسطورة المقاومة التي أصبحت كورقة التوت، إن كانت كافية لستر عورة واحدة، فالعورات الأخرى مكشوفة. فأسطورة المقاومة لم تعد تنطلي على أحد، وحتى من اخترعوها أصبحوا مقتنعين أنّها بضاعة فاسدة اليوم. فبعد انسحاب إسرائيل سنة 2000 من الجنوب، لم يعد للكلمة أي مضمون. الأسطورة الثانية هي توازن الرعب للردع، وهي سياسة قد تكون منطقية، لكن ما الذي يسوغ أن تكون هذه القدرة حتى هذه الساعة تحت قيادة الولي الفقيه الأدبية، وتحت أمرة قيادة الحرس الثوري الإيراني. وما المنطق في أن يكون تمويل أعماله الحربية والإدارية من دولة أجنبية. بالتالي فهذا بالضبط ما يمكن وصفه بالعمالة لدولة أجنبية. وهنا القانون يصبح واضحاً بهذا الخصوص، مع العلم أنّ هذا الفعل أدّى إلى تخريب هائل في الممتلكات ودمار واسع في المنشآت وخسارة أرواح هي عشرات الآلاف من اللبنانيين، وجلّهم لم يسعوا للشهادة لخدمة أسطورة الحزب.
ما الذي يعنيه هذا الكلام الآن؟ ما يعنيه أنّ «حزب الله» هو كيان معنوي سياسي في مواجهة سياسية مع أطراف داخلية متضررة بشكل خطير من وجوده، وهذه الأطراف يحق لها المواجهة في السياسة على الأقل، لعدم رغبتها، أو قلة باعها، في المواجهة العسكرية. وما تتهم هذه الأطراف الحزب به، معظمها يتباهى هو بها كإنجازات مقدّسة، مثل خدمة زعيم في بلد أجنبي أو القتال في بلد أجنبي أو تلقّي السلاح والجعالة من بلد أجنبي. وهي كلها أفعال خيانة يُعاقب عليها القانون. فالأولى إذاً بالشعب المتضرر باقتصاده وماليته وأمنه وبشره وحجره أن يرفع هو دعوى عامة بإسم الشعب ضد «حزب الله» الذي قتله وبكى ثم سبقه واشتكى!