تتظهّر حالياً مشاهد إقليمية معبّرة تستحق القراءة بتمعن. تبدو مستجدات سوريا هي الأساس التي يمكن من خلالها استخلاص المؤشرات الميدانية والسياسية ذات الأبعاد الاستراتيجية. تسعى تركيا للتمدد عبر إحتلال مزيد من الأراضي السورية. هي تُحاول الإقدام الآن، إستعداداً للإنسحاب الأميركي، وفرض توازنات ميدانية جديدة ستؤثر على كل مساحة في الإقليم. خصوصاً أنّ تركيا تحاول إبتلاع أكبر قدر ممكن من الأراضي العربية، والتوسع بكل إتجاه. لو قُدّر للاتراك ان يصلوا الى الخليج لفعلوا. وفي حال نجحت أنقره في مشروعها التوسعي في سوريا والعراق، سيزداد الخطر على كل الدول العربية، و خصوصاً الخليجية، بعدما ثبّت الأتراك نفوذهم في اكثر من ساحة عربية.
في الأيام القليلة الماضية أنشأ الجيش السوري بالتنسيق مع الجيش الروسي و"قوات سوريا الديمقراطية" أي الكرد، ثلاث نقاط عسكرية جديدة في مداخل مدينة عين عيسى الشمالية والشرقية والغربية، لمنع أي تمدّد جديد للجيش التركي والفصائل المسلحة المتحالفة معه. مما يعني أن الكُرد لجأوا الى التحالف العسكري والسياسي مع الدولة السورية، وأسس الفريقان مع الروس غرفة عمليات عسكرية مشتركة تهدف لصد الأتراك ومنع أي تقدم للمجموعات المسلحة التي تنفّذ مشروعاً تركياً احتلالياً في سوريا.
هذا الوعي الكردي المستجد لأهمية التعاون مع الجيش السوري، بعد مشاكسة دمشق خلال السنوات الماضية، يأتي في ظل الإنسحاب المرتقب للأميركيين من سوريا. وعليه، بات الجيش السوري أكثر ارتياحاً في الميدان، وهو استقدم تعزيزات عسكرية إلى مقر اللواء 93 في مدينة عين عيسى، مع تعزيز لكامل نقاط انتشاره في المدينة، لوقف التوسع التركي، والتصدي لعمليات القصف المدفعي المتكررة على المدينة ومحيطها.
واظهرت الوقائع الميدانية أن الأتراك مارسوا عمليات تهجير مدروسة للسكّان السوريين، وحاولوا تنفيذ سياسة الأرض المحروقة، لكن الجيش الروسي ساعد السوريين و"قسد" عبر تعزيزات عسكرية وصلت إلى نقطة المراقبة التركية في قرية تل السمن جنوب عين عيسى، للتأكيد على رفض موسكو المُطلق لأي تمدد عسكري جديد للجيش التركي في المنطقة.
لم تأت الإجراءات الروسية والسورية الاّ بعد إرسال الأتراك لتعزيزات عسكرية تؤكد رغبة أنقره بإحتلال اراض سورية جديدة ومحاولة وراثة الأميركيين في مناطق سورية واسعة.
وإزاء التحوّل الكردي نحو سوريا بعد سنوات من ضياع البوصلة، اعادت "قسد" تصويب مسارها نتيجة غياب راعيها الاساسي أي الأميركي. فهل سيصل العرب الذين أخطأوا في حساباتهم السورية الى ذات النتيجة التي وصل إليها الكرد؟.
اللافت في محطة عين عيسى السورية أنّ الروس يواجهون التمدّد التركي ميدانياً، لرسم خط احمر ثلاثي الأبعاد روسي-سوري- كردي في وجه أنقره. علماً أن علاقة جيدة تربط تركيا بروسيا تصل إلى حد التحالف بين البلدين. لكن موسكو حازمة تجاه أي مس بسوريا، فهي لا تريد لا تمدداً تركياً جديداً ولا أن يهدد الأتراك حلفاء موسكو. لذا، لن يُكتب لمشروع تركيا النجاح، حيث ستلاقي مقاومة سورية عنيفة معزّزة بدعم روسي ومشاركة السوريين الاكراد.
يبدو أن الأتراك الذين يعرفون مدى الحماية السياسية والمعنوية وأحياناً العسكرية الأميركية للكرد، يستغلون فترة الإنتقال بين عهدين في الولايات المتحدة لتحقيق مآرب تركية لم تغب عن أجندة أنقره. الخطير أن الأتراك يحاولون أن يقفزوا فوق كل المطبّات التي تتواجد امام مشروعهم، مما يهددّ اي مساحة عربية الآن ومستقبلاً. فهل تُقدم الدول العربية الدعم لسوريا بعد مقاطعتها، طالما ان دمشق تتصدر في مواجهة الأطماع التركية؟.