رغم أنّ في النص الدستوري الذي يرعى تشكيل الحكومة في لبنان ثغرات ونواقص تجعله بحاجة إلى مراجعة لضبطه، لكنه رغم هذا النقص فيه من الأحكام التي لو طبّقت أو فسّرت بحسن نية وتمّ التعامل معها بإيجابية، لكانت مكّنت من تشكيل حكومة في زمن معقول.
ونبدأ أولاً من حيث المهل وبدء مسار التشكيل فيمكن سدّ النقص فيها بالقول بالمهلة المعقولة التي تعطى لرئيس الحكومة المعيّن، ليتقدّم ببيانه الوزاري من مجلس النواب لنيل الثقة واستعمالها لرئيس الحكومة المكلف لتشكيل حكومته ولرئيس الجمهورية للتكليف وبهذا نصبح أمام مهلة 3 أشهر كحدّ أقصى للحصول على حكومة، مهلة تبدأ بتاريخ اعتبار الحكومة القائمة مستقيلة وتنتهي بتاريخ نيل الحكومة الثقة، وبذلك نتفادى استهلاك الوقت وهدره في مسار التكليف والتشكيل والثقة. وإذا رأى البعض أنّ الأمر بحاجة الى نص دستوري فليتوافق الجميع عليه وليصنعوه ويجعلوه حكماً ملزماً ينظم المسار الحكومي برمّته.
أما من حيث الاستشارات الملزمة التي يجريها رئيس الجمهورية، فإنه، وعملاً بروح النص وطبيعة النظام اللبناني يجب أن يحفظ لرئيس الجمهورية دوراً واستنساباً في المسألة مع مراعاة وتفسير عبارة الإلزام. حيث نرى أنّ الإلزام المقصود يعني أولاً وجوب الاطلاع على رأي الأكثرية النيابية والعمل بها، ثانياً وجوب التيقن من قدرة الرئيس الذي سيكلف على التشكيل وفقاً لأحكام الدستور الذي يفرض حصوله على ثقة مجلس النواب مع مراعاة العيش المشترك المنصوص عليه دستورياً.
ولو كان المشترع لا يريد هذا الدور لرئيس الجمهورية لكان استعمل صيغة أخرى ونصوصاً مختلفة لاختيار من يشكل الحكومة، من قبيل ترك الحرية للنواب لانتخاب رئيس الحكومة وقيام رئيس الحكومة المنتخب بتقديم وزرائه المقترحين الى رئيس الجمهورية الذي يكون عليه عندها التوقيع على اللائحة من دون نقاش، أو إعطاء الطامحين الى رئاسة الحكومة الى تجميع الأصوات وتشكيل أكثرية تؤيدهم والذهاب بهذه الاتفاقات الى رئيس الجمهورية للحصول على التكليف شكلياً لأنّ التكليف الفعلي يكون قد حصل عند إتمام الاتفاقات البينية المسبقة مع الكتل النيابية.
أما في تعيين الوزراء فإننا نرى أنّ الدستور أناط برئيس الجمهورية صلاحية توقيع مرسوم تعيين رئيس الوزراء منفرداً، وتوقيع مرسوم تشكيل الحكومة بالاشتراك مع رئيس الحكومة الذي يكون قد عيّنه للتوّ، ولهذا النص دلالة هامة، حيث إنّ التعيين الأول يلقي على عاتق رئيس الجمهورية التحقق من اختيار الأكثرية، أو تجمع الأكثرية النيابية حول رئيس الحكومة العتيد من دون أن يكون هناك فرض أو تسلّط أو مجانبة لإرادة الأكثرية في تعيينه، وهذا ينفي القول بأنّ توقيع الرئيس هو معاملة شكليّة وليست جوهريّة، أما في الثاني أيّ توقيع مرسوم تعيين الوزراء وهنا بيت القصيد، فإننا نرى أيضاً بأنّ التوقيع لا يقتصر على الصفة الشكليّة، بل يتعداها إلى صفة المشاركة. وفي هذه النقطة بالذات يكمن الخلاف القائم حالياً في لبنان وحدوث الانقسام في اتجاهات متعددة.
الاتجاه الأول يقول، بإنّ المسؤول عن تشكيل الحكومة هو مَن اختارته الأكثرية النيابية، والذي يبقى بحاجة لثقتها حتى يحكم، وانّ عملية التشكيل تتمّ بالتعاون والتنسيق والاتفاق بينه وبين الكتل التي تؤلف هذه الأكثرية، وبالتالي لا يكون لرئيس الجمهورية الحق بالاعتراض على ما تؤول إليه الاتفاقات البينيّة تلك، والتي تفضي الى اقتراح الوزراء جميعهم من قبل رئيس الحكومة المكلّف. ما يعني أنّ توقيع رئيس الجمهورية يصبح هنا صيغة شكلية لا يتعداها، فهل هذا ما رمى اليه النص الدستوري؟
الاتجاه الثاني ينطلق من عبارة «استشارات غير ملزمة» التي يجريها الرئيس المكلّف مع النواب، ليخلص الى القول بأن لا دور للكتل في تشكيل الحكومة بعد أن فوّضوا/ كلفوا/ اختاروا شخصاً للقيام بهذه المهمة، وبالتالي يكون عليهم انتظار نتيجة العمل في مجلس النواب، إما ان يوافقوا على أسماء الوزراء وبيان الحكومة ويمنحوها الثقة أو يمتنعوا وتسقط الحكومة. ثم يضيف أصحاب هذا الرأي أن ليس لرئيس الجمهورية أيضاً دور في اختيار الوزراء وعليه أن يوقع على اللائحة التي يحملها اليه الرئيس المكلف، ما يعني أنّ هذا الأخير يكون طليق اليدين منذ اللحظة التي تمّ تكليفه بتشكيل الحكومة حيث يصبح مطلق الصلاحية في كامل عملية التأليف، فهل هذا ما أراده المشترع في نظام الفسيفساء الطائفية؟
أما الاتجاه الثالث فإنه ينطلق من حرفية النص، ومن روح الدستور الذي يراعي وبشكل مؤقت الواقع الطائفي ويؤكد على وجوب احترام قواعد العيش المشترك في الحكم وإلا سقطت مشروعيته، ليصل الى القول إنّ تشكيل الحكومة عمل مشترك بين اثنين رئيس الجمهورية المسيحي، ورئيس الحكومة المكلف المسلم، وإنه عمل يخضع لقواعد التعاون والتوافق وتحقيق الانسجام والتجانس ما أمكن من دون أن يكون في التشكيل استفزاز أو إقصاء أو إلغاء لأحد بحيث يرعى رئيس الجمهورية المصلحة الوطنية العامة أولاً ومصلحة المسيحيين ثانياً، ويرعى رئيس الحكومة أيضاً المصلحة الوطنية ومصلحة المسلمين، أيّ أنّ المصلحة الوطنية تجمعهما أو يجب أن تجمعهما.
وعليه فإنّ تشكيل الحكومة وفقاً للاتجاه الثالث الذي يبدو أقرب لأحكام الدستور من الاتجاهين الأول والثاني يفرض على رئيس الجمهورية والحكومة المكلف التعاون والتنسيق والتفاهم ومراعاة المصالح المتوافقة والمتعارضة في آن وتكون عملية التأليف واجبة المرور في محطات أربع لا بدّ منها:
ـ المحطة الأولى: الاتفاق على مهمة الحكومة العتيدة وطبيعتها وهذا ما يجب أن يُصار إليه بين رئيسي الجمهورية والحكومة المكلف فور فراغ الأخير من الاستشارات النيابية غير الملزمة.
ـ المحطة الثانية: الاتفاق على حجم الحكومة ونوعية الوزراء والتوزيع الطائفي فيها، وهذا ما يجب الوصول إليه من خلال درس المهمة واتجاهات الرأي العام وبعد أن يكون الرئيس المكلف قد أجرى جولة مشاورات واتصالات معمّقة مع رؤساء الكتل وأطلع رئيس الجمهورية عليها.
المحطة الثالثة: الاتفاق مع رؤساء الكتل المأمول بنيل ثقتها الاتفاق على رغبتهم ونوعية مشاركتهم في الحكومة على ضوء ما تقرّر في المحطتين الأولى والثانية والحصول على أسماء مَن يقترحون لهذا الأمر.
المحطة الرابعة: إخراج مقترح التشكيلة بالتوافق بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في جلسة درس وتمحيص تفضي الى الإعلان عن الحكومة.
هذه المحطات تبدو أنها الممرّ الإجباري الدستوريّ والمنطقيّ والعملي لتشكيل حكومة بشكل يختصر الوقت ويحقق المصلحة، ولكن للأسف نجد ما يجري الآن لا يستجيب له، حيث يتصرّف رئيس الحكومة المكلف بذهنية «أنا كلّ شيء» و»الأمر بيدي» (الاتجاه الفرديّ الثاني أعلاه) وإما أن ينصاع الآخر أو لتبقى الدولة بلا حكومة. موقف يتخذه دون خشية من نص دستوري يقطع عليه الطريق في ذلك، (نظرياً يمكنه التذرّع بالفراغ الدستوري ويبقى الدولة بلا حكومة كلّ المدة المتبقية من عمر المجلس وهي 18 شهراً وفي لبنان سوابق في طول مدة التشكيل التي لامست السنة حيناً)، كما بإمكانه القول إنه قام بما عليه وعلى الرئيس أن يوقع او يتحمّل مسؤولية التأخير والعرقلة.
وفي المقابل نجد أن رئيس الجمهورية قام بما يجهض مناورة الرئيس المكلف ويكشف خطأ تفسيره لصلاحياته الدستورية في التشكيل، وذلك عندما زوّده برؤية متكاملة لتشكيل الحكومة من حيث الطبيعة والحجم والتوزيع الطائفي، وترك له الوقت لاجتراح صيغة تراعي روح الدستور وجوهر النظام الطائفي.
وهكذا كانت جلسة «تبادل اللوائح»، وهي وانْ كانت ظاهراً تعبّر عن نية للحلّ وإيجابية عكستها الضحكة الصفراء والتأكيد المتكرر لرئيس الحكومة المكلف عليها إلا أنّ الجلسة برأينا كانت أقرب إلى جلسات الدفوع الشكلية التي ترمي الى رفع المسؤولية من دون الخوض في الأساس، وطبعاً هذا المسار لا يفضي الى تشكيل حكومة بل سيقود الى مزيد من هدر الوقت وكوارث إضافية تنزل بلبنان، كوارث لا يمكن وقفها إلا بتغيير السلوك والخطوة الأولى الآن مطلوبة من رئيس الحكومة المكلف للعودة الى المسار المجدي والسير عبر المحطات الأربع التي لا بدّ منها للخروج بحلّ وتشكيل حكومة عمل ينقذ لبنان، فهل يفعل أم يبقى انتظار الإشارات الخارجية هو الحاكم؟